بقلم- خالد ابو عدنان- خاص مجلة القدس العدد السنوي 322
أنا لا أحمل مسدساً بل أحمل فكراً ثورياً قادراً على إقناع عدوي أنني حق وحقيقة ومن يقف بوجه الحق حتماً سيموت جاهلاً أنه أخطأ، أنتم رُسُل الثورة، أصحاب الفكر الحر تحرروا من الانتقام العصبي فقضيتنا أكبر من مجرد ثأر، نحن نعمل من أجل أن نعيش بأمان ومستعدون للموت دفاعاً عن حقنا بالأمان هنا وفي كل مكان وحقنا أن نعود إلى يافا وكل فلسطين. ( كلمات الشهيد صلاح خلف لنا – أطفال الجالية الفلسطينية في الكويت – في مقبرة الصليبيخات يوم تشييع جثمان الشهيد البطل علي ياسين عام 15/6/1978، رداً على طفلة سألته لماذا لا تحمل مسدسا؟)
عندما أُقلّب ما كُتب عن الأخ أبو أياد أجده أخباري عن وقائع وأخبار الثورة، وهو بذلك يكون مشابهاً بل مطابقاًَ لرأي القيادة الفلسطينية التي تدافع عن رأي الحركة، إلا أنني أضيف جديداً لكل من لم يعرف الأخ أبو إياد أنه مفكر مبدع وجريء بطروحاته. وهو رسول الفكر الثوري لعقول أشبال وكوادر الثورة الفلسطينية، فلن تجد له أي خطاب أو حوار مناقض لأفكار الثورة، بل أنه يرفض المواربة بالحديث فهو الصريح الواضح والمباشر الفاضح.
في الكويت خلال عقد الثمانينات كان هناك قيادات فلسطينية كثيرة وأسماء كبيرة رسمت شكل الثقافة والفكر، وكان التواصل المباشر يتيح فرصة نقل المعلومة بسلاسة الاتصال المباشر ومتعة النقاش مع أصحاب القرار، كما كان هناك ندوات تثقيفية للأشبال يقدمها عادة كوادر الثورة بشكل أقرب للحصص المدرسية، وكان الأخ أبو أياد دائم الحضور والمتابعة لما يقدم بهذه الندوات بل أنه كان يحاضر بنا مرات كثيرة، ولعلي أذكر الكثير من أحاديثه لكن يصعب تذكر زمانها، بالدقة المطلوبة، إلا أن هناك ندوة، غيّرت الكثير من قناعاتي أعتز بها بشكل استثنائي لا لِكَمْ المعلومات التي تعلمتها فحسب، بل لأنها كانت أول حلقة نقاش عن نقد الثورة والممارسات الخاطئة داخل الثورة.
ضمن مداخلات إحدى الندوات في عام 1986 بالكويت اشتد النقاش عن انحراف الثورة وهل هي ثورة وطنية أم عربية أم ثورية؟ وكان الأخ أبو أياد مُصراً على أنها ثورة شعبية لها امتداد عربي وشرح لنا أهمية التفريق بين المفهوم الاشتراكي لكلمة شعبية والمفهوم الثوري! قال لنا: هل الثورة هي تغيير واقع فاسد؟ إذن كل العالم بحاجة لثورة، فكل الشعوب تطمح لتغيير، لكن هناك أولويات بالطرح والتنفيذ، فلا يمكن أن نقول أننا لن نتعلم أو نتزوج أو نعمل مشاريع حتى تتحرر فلسطين! هذا الطرح مُخالف لفكر الشعب الفلسطيني، نحن نعيش الثورة ونُدخلها معنا في كل مناحي حياتنا؟ وقد نتفق مع مفهوم ماو تسي تونغ عن الحرب الشعبية أكثر من التفرغ العسكري وأسلوب تشي جيفارا عن حرب العصابات حتى النصر، لذا فإن حركة فتح جمعت ما هو مناسب لنا أي من كل بستان وردة لنصنع بستاناً فلسطينياً خاصاً بنا.
أما أن ثورتنا شعبية فهي بالتأكيد شعبية مع احترام القيم الاجتماعية للشعب الفلسطيني، إن هجوم بعضكم على العائلات الكبيرة في فلسطين ليس كله صحيحاً، نعم نحن نؤمن أن الشعب هو صاحب القرار في الثورة وإن مؤسسي الثورة هم بالغالب أبناء عائلات ليس لها تاريخ سياسي، دون أن تكون نظرتكم سوداوية لنضال شعبنا قبل انطلاقة الثورة، فهم ناضلوا ضمن مفاهيم عصرهم، التي وضعها العثمانيون ومنح الباشاوات سلطة تنفيذية على نواحي نفوذهم، ثم جاء الاستعمار البريطاني ليُرسخ مفهوم طبقة الأعيان في فلسطين، رغم شكلية الانتخابات في عهد الانتداب البريطاني إلا أنها تُشكل بدايات النهج الديموقراطي في المجتمع الفلسطيني، والديموقراطية تُفرز المجتمع إلى قسم متعاون يُسمى الأنصار وقسم مُتصارع يُسمى المعارضة، فالصراع لا يعني عداوة وحتى عندما نطرح كلمة الصراع العربي الصهيوني لا أتوقع أن هذه الجملة من الناحية الفلسفية سليمة، لأنها تعني شيئاً صعب القبول به ثوريا، أي أننا ممكن أن نُغير قناعاتنا ونقتنع بالفكر الصهيوني! اننا ضد المشروع الصهيوني ونحن عندما ندعو لعملية سلمية أساسها إلغاء المشروع الصهيوني وقبول أن يكون هناك علاقة صراع وتعاون داخل علاقة تجمعنا بالإسرائيليين مستقبلاً إي أننا نرفض المشروع الصهيوني دون أن نُلغي حق الإسرائيليين كشعب له حق العيش الآمن بيننا.
وهنا لُب القضية مع من يُحاول إلغاء الثورة الفلسطينية من الفلسطينيين أو العرب أو غيرهم، أنهم يخرجون من المفهوم الديموقراطي الذي يؤمن بالتعددية الفكرية وأن الثورة كما تطلب حلفاء متعاونين لها إلا أنها لا ترفض حلفاء بحالة صراع مع حركة فتح لكنهم يؤمنون بأهداف الثورة أي تحرير فلسطين كأولوية في عملهم، فقد ترى من يقول أننا نؤمن بتحرير فلسطين ولكن نريد تطهير مخيماتنا من الفتحاوية المتخاذلين أو أن التحرير لا يتم إلا بالتحالف مع هذا النظام العربي أو تلك المنظومة الدولية؟ المعضلة هنا في فهم الديموقراطية وكيف نُحوّل العلاقة من صراع إلى تعاون في نفس الجبهة؟ وهذا ما أقوله أن الدفاع عن الفلسطينيين ضد أي عدوان صهيوني هو واجب أساسي من واجبات الثورة بغض النظر إذا كانت العلاقة معهم على أساس صراع أو تعاون. أما إذا كان هناك تناقض داخلي يرفض شكل الديموقراطية الفلسطينية ويحرف مسار البندقية باتجاه شعبنا فإننا لا نسمح بذلك، وأقول أن مناقشات وحوارات عديدة مع المنشقين وغيرهم كان هدفها الأساسي الاتفاق على شكل العلاقة بيننا ضمن مفهوم الديموقراطية الفلسطينية.
والحقيقة أن الثورة ترفض الدخول في صراع مُسلح مع حلفائها وترفض النهج الثوري التطهيري إيماناً منها بأن مرحلة تحرير الأرض المغتصبة هي هدف الثورة أي أننا لسنا ماركسيين في فهم التناقض بين الفكر الرئيسي وهو إلغاء المشروع الصهيوني والثانوي، سحق المعارضة الداخلية، فنحن أول من طرح شعار الوحدة الوطنية بعد فشلنا بأن نجمع كل الطلائع الثورية داخل الأطر الفتحاوية، أي أننا نؤمن أن كل من يُساهم في إلغاء المشروع الصهيوني هو جزء من الثورة ويدخل ضمن مفهوم الديموقراطية الفلسطينية.
نحن ثورة وطنية بما تُحدده مفاهيم حركات التحرر أي أن داخل الحركة لا يوجد صراع على شكل الدولة بعد تحريرها من الاحتلال بل إن حركة فتح المفروض أنها ستُحَل وتفتت بعد تحرير الأرض، لأن أبناء الثورة هم من شتى المدارس الفكرية إلا أنهم ملتزمون بالعمل من أجل تحرير الأرض أولاً، أما شكل الدولة وأطرها القانونية يعتبر من الترف الأدبي في الوقت الحالي فمازال أمامنا طريق طويل حتى نحقق هدف الثورة.
أما قضية ما هو الوطن، فهو كل ما له علاقة بفلسطين من تاريخ وجغرافيا وثقافة وشعب، عدونا يحاول سرقت تاريخنا وثقافتنا كما سرق أرضنا، فجاءت ثورتنا ثقافية في بدايتها رافضة أن تحتل هزيمة النكبة عقول الشباب الفلسطيني، جاء فكر الثورة لينير الطريق نحو التعايش السلمي بين الأفكار والأديان، عندما تبحثون عن وطن متحضر لابد أن تتحضروا أولاً، فكيف ممكن أن تقبل بشراكة الإسرائيليين في الوطن ضمن صيغ محددة ومن جانب آخر ترفض تيار سياسي فلسطيني لمجرد أنك تختلف معه بالرأي، إن أساس الديموقراطية يعني قبول التعددية السياسية وحرية الرأي وقد نتحاور بشكل هادئ أحياناً وبالبارود أحياناً أخرى دون أن نُلغي أحقية أي منّا أنه فلسطيني وله الحق أن يُناضل من أجل تحرير الوطن.
بالنسبة للمغالاة بفهم ثورة الثورية وهي أن الفلسطيني المناضل يستطيع أن يناضل مع ثورات أخرى فإن انتصارها هو السبيل لتحرير فلسطين، أولاً الكلمة غريبة والأصل فيها اليسار المتطرف مثل الألوية الحمراء وفكر التنظيم الدولي، بغض النظر على هذه التسمية لكنها تعيدنا لبدايات النقاش حول جدلية التحرير والوحدة وهل الوحدة العربية هي طريق تحرير فلسطين أم العكس هو صحيح؟ ضمن حوارياتنا مع القوميين العرب والبعثيين، وحديثاً سمعنا أن تحرير فلسطين لابد أن يمُر عبر كابول كما طرحها عبدالله عزام ، وهو شيخ دين فلسطيني تدرب في معسكرات حركة فتح ضمن معسكرات أقامتها الحركة للمشايخ، وقبل أن نخوض في شرح هذه الفكرة لابد أن نعرف أن البداية تكون حيث تقف أنت بدون أي أنانية بل بتحمل المسؤولية الشخصية فلا يمكن أن يكون بيتك تحت القصف الصهيوني وتقول أنني أريد تحرير كابول حتى يسلم بيتي! وأنا أتحدث عن كابول في أفغانستان وليس قرية كابول في شمال فلسطين، وهي ليست المصادفة الوحيدة فكل شيء في فلسطين يشبه محيطه العربي والإسلامي من أسماء جغرافية وأسمائنا نحن وأيضا رائحة أكلنا ولون ملابسنا تؤكد لنا أننا جزء من هذه الأمة العربية والاسلامية، ومن هنا فكما لنا حقوق النصرة والدعم التي نطالب بها الأمة العربية لتقديمها لفلسطين المغتصبة. علينا واجبات إتجاهها وهي ضرورة من ضرورات استمرار الثورة الفلسطينية، فلا يمكن أن نقول إن حدثاً مثل الحرب العراقية الإيرانية لا يهمنا وليس من اختصاص الثورة، بل إننا أكثر المعنيين بهذه المواضيع لأننا نريد تسخير طاقات الأمة لمعركة تحرير فلسطين ونعتبر أن المستفيد الطبيعي من حالة الانقسام العربي هو المشروع الصهيوني، فلا يوجد حياد في الثورة بل هي بحاجة لكل الجياد لتصطف موحدة ضد الخطر الصهيوني، وإن من يروّج لفكرة تقديم حروب الأخوة على مجابهة المشروع الصهيوني يرتكب جريمة بحق الأمة العربية.
سمعت أن هناك متطوعين فلسطينيين خرجوا للدفاع عن العراق بحربه ضد إيران، كما سمعت أن آخرين ذهبوا إلى أفغانستان، وأقول لكم أنني لا أستغرب هذا، فالشباب الفلسطيني مفطور على الثورة ومحاربة القوى الظلامية، وأذكر كيف ذهب الشباب الفلسطيني لليمن مع القوميين العرب في فترة الخمسينيات وسوف يستمر بعض الشباب الفلسطيني بالانبهار بثورات وحركات عربية وإسلامية لأنه يبحث عن حل للقضية الفلسطينية، إذن إن جزءاً مهماً من مشاركتهم في نضالهم القومي أو الإسلامي يأتي من باب فشل الثورة الفلسطينية وانعدام قدرتها على فتح جبهة مع العدو الصهيوني، ولم أسمع أن فلسطينياً يقول أن تحرير فلسطين ليست أولوية لكنه يلوم الوضع العربي الرافض لفتح الحدود مع العدو الصهيوني! لكنني أتحدى كل من يروّج هذه الأكاذيب أن يكون فعلاً حاول أن يتطوع للعمل الفدائي الفلسطيني فلم يستطع أو أن التنظيمات الثورية الفلسطينية منعته، أما إذا كانوا لا يؤمنوا في فكر هذه التنظيمات فلا أتوقع أنهم غير قادرين على تشكيل تنظيمات جديدة يكون لها أسلوب مغاير لنا، وأتحدى أن يكون هناك مجرد أفكار ونقاشات بهذا الخصوص، بل إن البعض لا يعرف أي شيء عن الثورة في فلسطين ويعمل مجاهداً في أفغانستان!
إن من يذهب لجبهة القتال في أي مكان بالعالم يضع احتمال الموت شهيداً قبل فوزه منتصراً، ولكم أن تحددوا أي المعارك تستحق أن تموت من أجلها فلسطين هي قلب المعركة مع الأعداء مهما تلون شكل هؤلاء الأعداء تبقى فلسطين في القلب، فالصراع الرأسمالي الاشتراكي بين الأنظمة العربية يكون تحرير فلسطين العامل المشترك بينهما، وفي النظر للتنظيمات الإسلامية يكون تحرير المسجد الأقصى أهم بكثير من تحرير أفغانستان، ولك أن تعدد كل الأفكار وتدرس كل التنظيمات السياسية والمناهج الفكرية في المنطقة العربية وستجد أن تحرير فلسطين هو أكثر العوامل المشتركة بين هذا الكم المختلف المتناحر على السلطة أكثر من استعداده للتطبيق العملي لفكره السياسي أو منهاجه في توعية المجتمع، ومن هنا نتفق مع الجميع بضرورة بقاء فلسطين عاملاً مشتركاً، ونحن لواء هذا المشترك نحن الثورة الفلسطينية التي لا يختلف على ضرورة استمرارها أي تنظيم سياسي عربي أو حتى أنظمة حكم، لكنهم يريدوننا أن نكون تحت وصايتهم ونضع فلسطين جانباً حتى يحققوا هم أهدافهم ثم يحرروا لنا فلسطين! وهذا ما نرفضه لأنه تغيير لهدف الثورة، وهنا تتوقف الديموقراطية (لعبة تعاون أو صراع) لأنهم غيّروا المعركة وغيّروا أهداف النضال، إن الدفاع عن القرار الفلسطيني المستقل يعني الدفاع على ضرورة استمرار نضالنا ضد المشروع الصهيوني، هذا ما تقوم به الثورة الفلسطينية ولنا أنصارنا في الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم، أما الأنظمة العربية فهي تتحالف معنا بمراحل معينة وتعادينا بمراحل أخرى وفقاً لأهدافها الضيقة الهادفة لترسيخ حكمهم في بلادهم دون أن يكونوا حلفاء فاعلين لنا قادرين على تسهيل مهمة الثورة وتحقيق هدفها.
أما شكل العلاقة بين الثورة الفلسطينية وحركات التحرر في الوطن العربي والعالم فهي عميقة الجذور وكبيرة الأهداف، ونفتخر أن أول مكتب لحركة فتح كان في قلب انتصار حركة التحرر في الجزائر، وأن أكثر تجربة ثورية عربية تعلمنا منها كانت الثورة الجزائرية. إن شكل العلاقة بين الثورة الفلسطينية وباقي حركات التحرر هي علاقة متوازنة فنحن نقدم تجربتنا وعلاقاتنا ونستفيد من تجربتهم وعلاقاتهم ولا يوجد وصاية علينا لا من كبرى ولا صُغرى، وفي نفس الوقت نرفض أن نكون أوصياء على أي تنظيم سياسي، بل هي علاقات تفاعل الأفكار وتشابك العلاقات وتبادل الخبرات مع احترام لخصوصية وظرف نضالنا الفلسطيني.
وفي إحدى المرات بدأ ندوته غاضباً: أستغرب ممن يتوقعون ماذا سأقول قبل أن أنطقه، بل يغضبون إذا لم أقل ما توقعوا أن أقول! هذه قضية خطيرة قريبة من التطيّر الخرافي وحكم مسبق أرفضه، ليس للحكم عليْ شخصياً بل على أي إنسان، فهذا حكم جائر وتعدٍّ على علم الغيب أيضاً، أفضل أن ترتبوا أفكاركم واستفساراتكم كي يكون حوارنا هادفاً، فكما أنا مسؤول عن رأيي أنتم مسؤولون عن رأيكم، وحوارنا يأتي لأننا بنفس الخندق في معركة التحرير. فهمنا لمبدأ النقد يبقى قاصراً إذا لم نطرح الحلول ونشارك في تطبيقها، فلا مثالية حالمة ولا أفلاطونية مستبدة، بل ثورة تتحرك أفكارها وفقاً لتجربتها الخاصة، فليس كل شيء منطقي في ثورة ما، يصلح أن يكون مرشدنا في فلسطين، كما أن الزمان لا يعود للوراء فلا يمكن أن تطرحوا عودتنا لمرحلة ثورية انتهت، بل المطلوب التفكير العملي بكيفية إنجاح مسيرة الثورة في المرحلة التي نعيشها. بين قضية تقييم المرحلة السابقة ووضع خطة للمرحلة القادمة هناك مساحة كبيرة نُسميها عملنا الآتي من فعاليات ونشاطات وقرارات وكل ما ننجزه بالوقت الحاضر، ولكم أقول إن فهمنا للحاضر ضروري فهو امتداد للماضي وبداية المستقبل، فهو الزمن المتحرك الذي يحتاج للنقد.
وهذا ما حدث في مؤتمر فتح الذي عقد في أكتوبر 1971 من تعديلات أساسية في النظام الداخلي وتفعيل حقيقي للديموقراطية المركزية، وقبل أن أشرحها أقول لكم إن كلمة الشهيد أبوعلي أياد الشهيرة: نموت واقفين ولن نركع.. كان لها انبعاث فكري داخل الحركة لإزاحة نضالنا المسلح من قتالنا للعدو الصهيوني، ليتوسع ويشمل المتآمرين والخونة في صفوف حلفائنا العرب، فقبل المؤتمر كثرت التصرفات الفردية المخالفة لرأي القيادة، بل أن البعض أقام تكتلات داخل الحركة لتصفية الحساب مع النظام الأردني والانتقام لشهدائنا، بينما كانت القيادة تسعى لوضع حد للأزمة مع النظام الأردني ومنع القتل على الهوية الذي طال أي فلسطيني معارض مهما كان انتماؤه، وإن يكون أول من خرج عن رأي القيادة الجماعي هو عضو لجنة مركزية وتكون كلمته هي البارود الذي أشعل الغضب العارم في صفوف أبناء الحركة ضاربين بعرض الحائط قواعد الانضباط بقرارات اللجنة المركزية جعل هذا المؤتمر من أهم المؤتمرات التي أثرت في طريقة تفكيري وأعادتنا لأفكار البدايات بين أن نصنع حركة قوية واضحة تحت اسم فتح، أو مجرد محاولة جس النبض عن طريق خلق مجموعة صغيرة تحت مسمى العاصفة. لن أقول أن منظمة أيلول الأسود مثل العاصفة بل هي السبب الحقيقي في عدم حدوث انشاقاقات كبيرة بعد أحداث أيلول في الأردن فهي مَن حصّنَ الفكر الفتحاوي من الانجرار عن هدفها الرئيس وهو مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، أما أي قضية أخرى فهي ثانوية بل أحياناً ممكن تأجيلها أو حتى نسيانها.
أن نمارس الديموقراطية المركزية في حركة ثورية مشتتة القواعد يعني أننا اخترنا الأصعب، وحقيقة التزام الأقلية برأي الأغلبية هو أساس أي تجمع يؤمن بالديموقراطية، وما اختلف فيه مع البعض هو: أن لا يدافع عن رأي الحركة الناتج عن التصويت، فبعد التصويت لا يوجد رأي شخصي ولا يوجد فكرة انني كنت ضد القرار لكنهم فازوا بالتصويت، هذا ليس كلاما سهلا بل هو جريمة بحق انتمائنا لحركة فتح، فبعد التصويت تنتهي كل النقاشات وهناك قرار واحد للحركة لابد الدفاع عنه.
أما عبارة "أنا ضد قرار الحركة الذي نجح بالتصويت لكنني ابن فتح " فهذا مرض الأنا القاتل لروح الثورة داخلنا، فلنتحرر من جبروت الفردية فهي مهلكة، فالأنا لا تحرر فلسطين بل نحن معاً وسوياً، فالثورة تجمع الأفكار. فكرة منك، ومن الآخرين أفكار، وقد لا تكون صاحب فكرة ناجحة بالتصويت، دون أن ينتقص من أهمية رأيك وقدرتك على صياغة قرار وهي ليست مهارة الاقناع، بل هي حوارات تتداخل لترسم شكل الأفكار.
كم مرة سمعت أن التصويت في مؤتمراتنا شكلي يخضع لقانون شد الحبل أو صوتوا يا غنم؟ وكأن أبناء حركة فتح مكممة أفواههم ولا يملكون إلا أن ينتظروا حتى يقف من يصرف عليهم من القيادات ليدعموا فكرته مهما كانت، وأن هذه القيادات تربط أيادي أتباعها وترفعها كيفما تريد في تصويت يصفه البعض بمركزية لا يمت للديموقراطية بشيء! أقول لكل من يفكر بهذا الأسلوب التافه. إن المؤتمرات في حركة فتح هي ختام الممارسة الديموقراطية التي تبدأ بالاجتماعات الدورية والممارسات اليومية وإتمام المهام والتكاليف، ولهم أقول أن صناعة القرار تبدأ هناك بالاجتماعات الدورية للأطر القاعدية فهي التي تبلور التجدد بالفكر الحركي وتبني لبنات الأساس لأي قرار حركي، أما من يحضر المؤتمرات فهم يحملون معهم أفكار من انتخبهم لتمثيلهم لا مجرد رأيهم الشخصي، ولا نقلل من أهمية المشاورات والمداولات قبل المؤتمرات أو في كواليس المؤتمرات فهي حالة صحية لتقريب وجهات النظر واختصار وقت المناقشات داخل المؤتمرات، دون أن أقلل من حجم الممارسات الخاطئة التي تحدث أحياناً من القيادات أو القواعد، ومنهاجنا في علاجها ينتهي بالمحاكمة الثورية وتفعيل باب العقوبات في النظام الداخلي للحركة، لكنها لا تبدأ حادة بهذا الشكل القطعي، بل في فهمنا أن تصويب المسار امر ممكن، وأننا نتعلم من تجربتنا، وأن الانسان يتجدد فكره ويتطور أسلوب حواره ويبتدع مسلكية ثورية إذا تعمق بفهم معنى النقد والنقد الذاتي فلا ثورة بدون نقد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها