بيت بائس قديم يقبع في زقاق المخيم، جدرانه متصدعة تكاد أن تقع على رؤوس من فيه، تلفه العتمة، وتتسلل لأعماقه الرطوبة في كل زاوية. بمجرد الجلوس في ردهة المنزل يشعر زائره بصعوبة في التنفس، فلا نوافذ لتجديد الهواء، ونظافة المكان متواضعة. في هذا البيت بدأت الحكاية الموجعة لـ "يوسف" الابن بين أربعة أشقاء، والتي تحمل في طياتها وتفاصيلها الصغيرة ألما وحسرة، فـيوسف شتيوي ابن الاثنى عشر ربيعاً وعائلته البسيطة، يعانون شظف الحياة، ويمزق الفقر جيب والده إبراهيم مشعلا نيران العجز في داخله، أتراه خطأ ارتكبه يوسف حين لحق أباه خفية أم أنها مجرد حادثة كتبت قضاء عليه لتحرمه النطق واللعب كبقية الأطفال!! 
السيدة عائشة والدة يوسف، بدأت تتحدث عما حصل ليوسف حين هاتفتها إحدى المعلمات في الروضة، لتخبرها عن إصابته بنوبة مفاجئة في بطنه، فهو يصرخ ويبكي ألما لا ينقطع، لتهرع أمه إليه فتصحبه إلى المشفى، ليباغتها الطبيب بحاجة طفلها لعملية استئصال "الزائدة الدودية"، وهو يوبخها  للإهمال بصحة يوسف الواقع لحظتها في دائرة الخطر. وتتابع السيدة اشتيوي: حين انتهت عملية يوسف، بقي في المشفى لخمسة أيام أخرى بلا طعام، وكان يشرب الماء من خلال "النرابيش" التي توضع للمريض لإدخال الماء والطعام".
وبعد الزائدة الدودية، أوقع الحظ العاثر يوسف في مخاطر السقوط من أعلى درج منزله، سقطة كانت كفيلة بالقضاء عليه، حين استقر جسده على الأرض مثخنا بالجراح والكدمات، فتصف الموقف قائلة: "كان وجهه مليئا بالجروح والكدمات، كان مخيفا جدا ولا يرى وحمدا لله أنها انتهت على خير".

لم تهنأ أم يوسف برؤية ابنها سالماً بعد كل ما أصابه، حتى أن جاء موعد الحادثة الثالثة في بداية العام 2008، عندما حلق جسد يوسف في الهواء مرتطماً بقوة على رصيف الشارع، وحذاؤه في الناحية الأخرى منه، ويقول أبو يوسف والكلمات تخرج من فمه بصعوبة أمام دموع زوجته التي كانت تنهمر دون انقطاع لم تكن هذه الحادثة كسابقاتها مطلقا، هي فاجعة أصابتنا.

 ذهبت ذات يوم لبيع زجاجات الكولا الفارغة، وأراد يوسف أن أصطحبه لكنني رفضت، فالشارع الذي أجر عربتي عبره مزدحم بالسيارات، وأغلقت حينها زوجتي الباب حتى لا يلحق بي، لكني كنت أشعر بأنه يتبعني، فألتفت خلفي  ولا أجد أحدا، فاطمأنت نفسي إلى أن أمه أغلقت الباب بإحكام، وتابعت في طريقي إلى أن وصلت مكان العمل، وقتئذ سمعت صوت "خبطة" تهز الشارع، هرولت إلى مكان الحادثة لأرى حذاء ولدي ملقى على جنب الشارع، كان يوسف ملقى بلا حراك بعد أن صدمته سيارة.
وأكملت السيدة عائشة عن زوجها رأيت الوجع والذهول يمتزجان في وجه زوجي، حين جاء إلى المنزل، ليصفعني نبأ السيارة المسرعة التي دهست ولدي الذي يرقد في حالة خطيرة في المستشفى، صرخت كثيرا وبتكرار "مات يوسف" "مات يوسف"،  هكذا حدثني قلبي الخائف.

أسرع والدا يوسف إلى مشفى الوطني في نابلس، وكان يوسف حينها في غرفة العناية المكثفة، يتلقى صدمات كهربائية،  وأدرك كلاهما أن حالته خطرة للغاية، ومن ثم تم نقل يوسف إلى مشفى رفيديا، ثم نقل إلى مشفى الاتحاد، وبقي يوسف لعام في غيبوبة، قدرها الأطباء بالموت السريري. كانت السيدة عائشة اشتيوي في مخاضها تردد الدعاء لابنها الغائب، صارخة باسمه، حتى سيطر الفضول على قلب الطبيب المتابع لها، كان يريد أن يعرف من "يوسف" لتجيب: هو روحي، حينها كان كل من حولها يدعون أن يعوضها الله عن يوسف المحكوم في نظرهم بالموت، إلا قلبها الذي ضرع أن يعود.

يقول والد يوسف "بعد مرور عام على غيبوبة يوسف، جلست بجانبه، أمسكت يده، وجعلت أصابعي تتخلل أصابعه، كنت أشعر بالألم عنه وعليه، حينها تنبهت إلى استجابة ضئيلة حدثت من قبل يوسف، لم تسعني الدنيا فرحا، وزاد أملي بالله. وتتابع والدة يوسف "بكيت حين علمت بالأمر، وأيقنت أن يوسف لن يموت، وسيعود للحياة مجددا"

وتضيف: تم نقله بتاريخ 13_1_2009 إلى مشفى التخصصي للتأهيل والجراحة في بيت جالا، حيث استعاد يوسف حياته بلا قدرة على الإبصار، وإصابة بشلل جزئي تشنجي في الجهة اليمنى، وحبسة كلامية أفقدته القدرة على النطق، هذا حال ولدي بعد عودته من الموت.

مضت أيام أخرى، ثم تلقى والداه مكالمة هاتفية من قبل المشفى ليعلمهم الأطباء أن حالة يوسف بدأت بالتحسن، واستطاع أن يبصر من جديد، ولحظتها كان يشاهد التلفاز، إلا أنه يعجز عن تناول الطعام و السير أو التقاط الأصوات، وتقول والدته: عاد مولوداً جديداً، لم يتذكر أحد ممن حوله حتى أنه لم يعلم من أكون. 
مضت سنوات أخرى وحالة يوسف آخذة بالتحسن، فالعلاج ألتأهيلي الذي تلقاه بشكل مكثف جعله قادرا على الاستجابة لكافة الأوامر الإدراكية والوظيفية، وأصبح بمقدوره السير، إلا أنه يفقد توازنه في بعض الأحيان ويقع أرضا.

 وما حدث معه في العام السابق أن تعرض لحرق من الدرجة الثانية بسبب غضبه من شقيقه، فأراد أن يعتدي عليه بالضرب لكنه فقد توازنه وسقط على (كانون النار) الذي يتوسطه إبريق للشاي المغلي، ما أدى لدخوله في علاج عصبي إضافي. وعلاوة على التأخر الملحوظ من الناحية النفسية والاجتماعية، يحتاج يوسف إلى مراقبة دائمة من قبل ذويه لمنعه من إيذاء نفسه أو الآخرين.

يوسف كان يهوى "المصارعة" أكثر من أي شيء أخر، وكان من أذكى الأذكياء في مدرسته، لكن أبت تلك السيارة المسرعة سوى حرمانه من كل شيء رغبه ذات يوم، وأن تسلبه الحق في إكمال مسيرته التعليمية بشكل لائق طبيعي.

الكدمات التي لا زالت أثارها تسكن وجه يوسف حتى ألان، وأثار الحادثتان الأخيرتان التي لا زالت تشوه جسده، هي شريط ذكريات طفولة "يوسف" التي لن تمحى من ذاكرته مهما كبر، ولا من ذاكرة والديه أيضا.