في الستينيات من القرن العشرين وما قبلها في منطقتنا العربية، وحيث نشأ العلامة هاني مصطفى فحص، كان اللبنانيون و السوريون والأردنيون و الفلسطينيون أي الشاميون لا يفرقون كثيرا عن بعضهم البعض فهمومهم وأحلامهم بالتحرر والعيش الكريم واحدة كما أشكالهم وألسنتهم، ولم يكن لأحد ليسألك عن دينك أو مذهبك ما هو بينك وبين الله فتجلى التعايش في أبهى صورة.
سأل الطفل أو الشاب هاني جدته مستفسرا عن طبيعة تعايش اللبنانيين مع الفلسطينيين ؟ في الفترة ما بين العشرينيات و الأربعينيات من القرن العشرين إذ كانوا يعملون معا في مدينة حيفا الفلسطينية وغيرها، كما دون ذلك في إحدى مقالاته الأدبية، إذ يقول لها: (يا ستّي، بتحبّي أهل السنّة؟ والله، أنا بحبّ الناس الأوادم. غير الأوادم، لا أعرفهم، حسابهم على ربّهم، أكره فعلهم ولا أكرههم ولا أكره أمهاتهم وأبناءهم. الشيعي اذا لم يكن آدمياً، أدعو له. وهل تدافعين عنه؟ أدافع عن ماله وعرضه وحياته وأهله، ولا أدافع عن أفعاله السيئة ولا أعاديه.)
انها بيئة عرفت التسامح والحب والاحترام، فلم تعرف الكراهية والبغض والعدوان والفُرقة ، وهي البيئة التي تشبعت بفضائلها نفسية "السيد" منذ الصغر.
من أين أتى ل"ختيارة" مثل هذا الوعي؟ إن لم يكن مستقرا في أصول ثقافتنا وحضارتنا ومجتمعاتنا وديننا؟ الذي دعى العلامة الشيخ محمد راتب النابلسي أن يقول في مدرسة الحب مثل ما قالته "ستنا": (لا يكره الإنسان الكافر بل يكره كفره فقط ويكره انحرافه، أما كإنسان يحبَّه ولذلك الإنسان إذا رجع إلى الله أصبح أخاك وانتهى الأمر، وعلامة المؤمن لا يوجد عنده حقد أبداً وأعدى أعداء المسلمين لو أنه اصطلح مع الله يجب أن تحبَّه من أعماق أعماقك.)
في تلك الفترة وفي مثل هذا الجو الرحيب نشأ السيد هاني فحص في بلدته (جبشيت أو جب شيت) في لبنان وتعاون معه الفلسطينيون في تجارة الدخان وتهريبه، ولقى و أهله منهم كل مودة ومحبة واحترام لربما كان لها الأثر البعيد في اقترابه الكبير من كل الفلسطينيين لاحقا.
ان يدرس في مدينة النجف ويصبح فقيها و عالما بالمذهب الشيعي لم يكن من ذلك ان جعل عقله مقفلا بلا مفاتيح، بل انفتح على المذاهب الدينية و المدارس الفكرية سواء الإسلامية أو المسيحية أو العالمية عامة، فوطد أفكار التقارب الإسلامي المسيحي في سيرته فلم يأنف أن يلقي خطابا أويحضر حفلا أو يشارك أي فعالية لأي كان من المخالفين أو الموالين.
وكما كات علاقته مع "سِتُّه" متسامحة ولطيفه ومؤثرة، كانت علاقته مع أم جرجس المسيحية، التي عايشها وعائلتها ، فدخل بيتها ليأكل ويصلي فيه ويتباسط، وعندما توفيت أم جرجس كما يقول رجاء بشارة ( لم تجد العائلة غير السيّد ليلقي كلمة العائلة في كنيسة دير ميماس "قضاء مرجعيون" في لبنان باسمها، لأنها أحبّته، وقال يومها: «أنعى إليكم أختي وأمي». وتكلّم عن علاقتها بفلسطين وشباب المقاومة.)
السيد الهاشمي كان من أنصار فكر د.علي شريعي المفكر الإسلامي الشيعي المتنور صاحب كتاب (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) وهو إذ توفى مسموما على الأرجح في مقتبل عمره، فان السير في جنازته و جنازة ابن الخميني عام 1979 وبمواكبة الزعيم ياسر عرفات كان اللمعة التي احتاجها السيد ليربط بين ياسر عرفات و الخميني في النجف حينها
فكانت الرسالة الأولى ، التي خطها ياسر عرفات وإن بقلم "السيد" ومشورته ليجيء فحواها كالتالي: "لقد رأيت أن أكتب إليك هذه الرسالة وأنت تعرف مبلغ اعتزازنا بكم وبثورتكم المباركة ضد الظلم والطغيان وضد الصهيونية والتسلط الإمبريالي على منطقتنا والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وقد اخترت الأخ الكريم هاني فحص -حضرتك- ليحمل إليك هذه الرسالة وليطلعكم على بعض الأمور الهامة وليطلع على آرائكم بشأنها خاصة وأنها مهمة في هذا الوقت الذي تحاول هذه القوى الغاشمة أن تبلغ أهدافها ضدنا جميعا ولتركع أمتنا الإسلامية تحت أقدامها وأطماعها. أرجو في هذه الرسالة أن أنقل لسماحتكم محبة أبنائكم المجاهدين الصادقين الصابرين ودعاءهم وآمالهم وأمانيهم لكم ولجهادهم، إنه سميع الدعاء. وتقبل أطيب وأسمى تحياتي ومودتي القلبية الحارة"
وبعد الرسالة الأولى توالت الرسائل و توطدت العلاقات بين الثورة الفلسطينية و الثورة الإيرانية إذ طار هاني فحص مع "أبو عمار" إلى طهران للقاء الخميني، وتسلم سفارة فلسطين، مستبدلين العلم الفلسطيني بذاك الإسرائيلي.
صاحب مدرسة فكرية استطاعت تحقيق التوازن، والعرفان والتنوّر، فلم تتجه للشطط ولا إلى التطرف، ولم تعرف التعصب المذهبي ولا الديني ، وصاحب دعوة عروبية للوحدة ومساحة ود ومحبة واختلاف واسعة ميزته ، ولا بد أن علاقاته مع أبي جهاد وسعد صايل وهاني الحسن وياسر عرفات وأترابهم من قيادة الثورة، كان لها الدور الكبير في اتساع الفضاء، رغم توقفه عن نقل الرسائل عام 1988 بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية فالخميني مرجعية دينية وياسر عرفات مرجعية سياسية ، قال لابي عمار : وأنا شيخ لا تضعني أمام اختبارأو اختيار بينكما
كتب يقول أنه وجد في حركة فتح ما لم يجده خارجها حيث "وجدنا في حركة فتح فضاء رحبا يجنبنا المصادرة والاستحقاق والحزبية الضيقة ويحمينا".
وقال في مقدمته الرائعة لكتاب اللواء محمود الناطور الصادر عام 2014 والمعنون "حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات" ( ان فتح جسم كبير و مرن يتسع ويتسع ويهضم ، ويعيد التشكيل ، ويستعيد التائهين..ما جعلنا نقول عن خبرة ومشاهدة ، بان فتح عمارة ، أو مدينة يجد من يريد الدخول إليها أبوابا كثيرة مفتوحة على وسعها ، أما إذا أراد الخروج ، أوأراد احد ان يخرجه فانه لن يجد بابا يخرج منه ، فلا بد له من البحث عن ثقب في جدار ينسحب من خلاله ، ليجد نفسه بلا مأوى و لا أهل و لا رفاق و لا قضية)
وكان يخاف على الثورة والحركة التي احتضنته ، كما كان يخاف على الفكر والعقل والثقافة والتسامح الديني أن يُفقد ما كان واضحا في كل مؤلفاته وخُطبه ، وفي لوعته على الحركة التي انتقد المثالب فيها كثيرا قال (لو كنت تراقب حركة فتح من بعيد ، في زمن العواصف والزلازل ،لخفت عليها أن تنهار صباح الغد ....ولكن ما يلبث أبو عمار إن يعود من سفره ، حتى يحتشد حوله من كانوا يرجمونه أمس مع من كانوا يدافعون عنه ، ليتباحث الجميع في الشراكة من أجل تجاوز الأخطاء و تعويض الخسائر ومراكمة الانجازات الصعبة دائما)
وقال ( أريد لفتح ان تعالج اعطابها ...لان فلسطين لا تستغني عنها،وأنا لا أحب فتح لأنها جميلة او طويلة او غنية ، أنا أحب فتح لأنها بنت فلسطين التي تشبهها .ولأنها أم فلسطين التي تشبهها ولا أحب أن يتراجع الشبه بين فتح وفلسطين لأن في ذلك حراما بيننا وشبهات لا تبعد كثيرا عن الحرام ....)
وقبل وفاته بفترة قصيرة قال باعتزاز عميق أيضا ل"حارس الورد" أي حركة فتح: (تحية لفتح الوسطية ، والتي ان مر الدين عبرها سلم ....ودين فلسطين المركّب من أهلها و ذاكرتهم وعيشهم المشترك وحلمهم المشترك ، الساهر في المساحة الجميلة بين الأقصى والقيامة ، ليذهب فجر الميلاد معا إلى بيت لحم ، هذا الدين وجدته في حركة فتح عندما لم يلتفت احد إلى عمامتي السوداء كعلامة شيعية ، بل كعلامة هاشمية عربية مسؤولة من دون امتيازات ...ولم التفت إلى أن أحدا من فتح بعيد عني لأننا مختلفان دينيا او مذهبيا او فكريا ..)
وحيث وجد الرحابة والحرية ، وجد فيها حوارا داخليا عنيفا كان يحتاجه في شتى المواضيع وفيها انتقد كثيرا ، وطور من تفكيره ، وان لم يسأله أحد في حركة فتح عن عمامته السوداء وعلاقتها بالثورة فلقد كان للفلسطينيون شرف احتضان العمامة البيضاء للشيخ السوري عز الدين القسام قبله .
من يستطيع بكل ثقة أن يجمع في خطبة واحدة بين عمر بن الخطاب وبين فولتير ، وبين علي بن أبي طالب وجيفارا غير هاني فحص ومن يستطيع ان يتمثل بقول المسيح ومحمد عليه أفضل الصلاة والسلام سواه.
في الإطار سألوه كيف تحب (جيفارا) وأنت شيخ معمم فقال ردا جامعا مانعا : عندما قرأت (نهج البلاغة) أحببت جيفارا.
من أتباع الطائفة من تضرر من علمه الواسع وسعة صدره وأفكاره المتنورة وطروحاته المتميزة وكتاباته الجامعة ما لم يؤثر فيه الا بتعميق مدرسة الحب والقبول والاتساع، فجمع في شخصه بين شخصية العالم الوقور و الأديب والمثقف جم التواضع رحب الأفق.
السيد هاني فحص الفلسطيني اللبناني ثورية ، هو ذاته المسلم دون قيود ، والإنسان دون حدود والمستقبل المأمول رحابة وانطلاقا وتقبلا وسعة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها