خاص/مجلة القدس، كرد سريع على العدوان الذي نفذته مجموعات إسلامية متطرفة ضد الجيش المصري في سيناء نفى المسؤول في حركة حماس طاهر النونو نفياً قاطعاً أن يكون أحد من غزة شارك في العملية- بالطبع لم يختصر النفي على السيد النونو فقط.

لكن وبالمقابل باشرت السلطات المصرية فوراً عملية تدمير شاملة للأنفاق التي تربط بين قطاع غزة وسيناء دون أن تصدر أية مواقف أو ردود أفعال من جانب سلطة حماس التي دأبت على اعتبار الأنفاق وسيلة استراتيجية لكسر الحصار ودعم صمود القطاع وورقة قوة بيد المقاومة.

احترام حماس للقرار المصري الذي جرى تنفيذه دون سؤالها أو استشارتها ، دليل حاسم على علاقة أكيدة بين عناصر متطرفة من القطاع- ليس مشروطاً بعلاقة حصرية بين كتائب القسام والجماعات المصرية المتطرفة، بل بجماعة ما أو أكثر لها صلة مباشرة بما حدث في العريش، إضافة إلى كون الخطوة تعبيراً عن إجراء سيادي اتخذته السلطات المصرية لضبط حدود الدولة وتنظيم عملية التواصل مع الجيران في قطاع غزة.

السلطة السابقة في مصر كانت أعجز من أن تقوم بمثل هكذا خطوة نظراً لما سوف يتبعها من مواقف وردود أفعال تدينها وتخوِّن النظام المبادر إلى اتخاذها وتنفيذها، حيث كان من السهل اتهامها بالتآمر على المقاوة والتأثير بمناعتها سلباً لصالح الاحتلال الاسرائيلي. مع العلم أن الدولة  المصرية وقعت ضحية عجزها وتسرعها، عندما لم تدرك مضاعفات وخطورة موافقتها في كامب ديفيد على الحجم الكمي والتسليحي البسيط في سيناء، مما أنتج الآن بؤرة شديدة الحساسية والخطورة على الأمن الوطني المصري تحتاج لتداركها جولة ماراثونية ثلاثية الرؤوس ، مصرية – إسرائيلية - أميركية، وتحتاج إلى تقاطع مشترك معهما لجهة قراءة الحيثيات التي تحدد المخرج الملائم للخروج من مشكلة أمنية قد لا تصيب الجانب المصري وحده.

إذاً، ما جرى من تداعيات أمنية وضع السلطات المصرية الجديدة أمام امتحان دقيق، كونه يذهب إلى اتجاهين، أولهما سياسي ويفترض تفاوضاً على صيغة معدلة لاتفاقية كامب ديفيد حول عدد الجنود المصريين في سيناء ونوعية تسليحهم، معتمداً على تفهم الجانبين الإسرائيلي والأميركي لذلك.

الاتجاه الثاني يتحمل مسؤولية معالجة العلاقة الملتبسة بين الدولة المصرية والفقراء المهمشين من بدو ومزارعين في مساحة واسعة من الأرض يغلب عليها الطابع الصحراوي والإهمال المزمن، مما يجعلهم بيئة نموذجية لأشكال النشاطات غير الشرعية- كالتهريب على أنواعه، وسهلة الانقياد إلى سبل التطرف والتعصب. كل ذلك يحتاج إلى خطط ومشاريع تنموية مكلفة غير مضمونة الإمكانات التي يفترض أن توضع لأجلها.

وسط هذا العجز المزدوج تبرز أهمية القطاع في ظروفه الاستثنائية بكافة الأسباب والمعاني. لماذا؟

1- لأن حماس الآن- كسلطة انقلاب في غزة- باتت ترى أنها امتداد للحكم في مصر.

2- لأن حماس تاريخيا، تواصلت وارتبطت بمنظومة مصالح كبيرة على المستويات التجارية والتسليحية مع سيناء، وأسهم ذلك في انتفاخ طبقة جديدة من المحتكرين الحمساويين الذين استغلوا واقع القطاع الصعب والشديد الحاجة إلى كافة أنواع السلع والحاجيات، إضافة إلى ارتباط الطرف المصري- المهربون- بقوى وربما دول تسهم في تحويل القطاع إلى مستودع لأنواع وكميات سلاح تعتقد أنها تدعم مقاومة فئات من القوى الفلسطينية، كما ليس سراً تدرب الكثير من هؤلاء في معسكرات كتائب القسام بغزة.

من الطبيعي أن تبادر حماس وبعد العدوان أيضاً إلى الإعلان عن استعدادها لتأليف لجنة مشتركة مع الجانب المصري كي تساعد على منع تكرار مثل هذه الاعتداءات. بالطبع هي محاولة استغلال اللحظة التي تعتبرها مناسبة كخطوة نموذجية لتعويم سلطتها وبالتالي الاعتراف بها كمرجعية رسمية تمثل الفلسطينيين في القطاع. لكننا حين نمعن النظر إلى الكيفية التي تدير بها حماس دفة سياستها نجد أنها الأعجز عن بناء جسور الثقة مع الآخرين. لماذا؟

لأن احتياطها من ذوي الأعمال القذرة كبير، ولا يمكن فك العقد التبادلي معهم بسهولة، نظراً للتركيبة البنيوية التي تجمعهما. فالطرق الشرعية والقانونية تغلق عليهما مزاريب الذهب والمنافع الخاصة. والعلاقة الرسمية مع الدول تحتاج إلى مستويات دبلوماسية وأصول ملتزمة السياقات البروتوكولية والعرفية بين أطرافها، فيما حماس مركب هجيني مجتمع على الفوائد وتقاسم الحصص والمغانم التي أكثرها يأتي من خلال العلاقة بالأعمال القذرة وتجارة الأنفاق.

إن المسؤول الأول عما آلت إليه الأمور مؤخراً يعود إلى حزيران العام 2007، يوم نفذت حماس ما دأبت على تسميته "يوم الحسم"، فيما هي الآن، وكلما حشرت في موقف أو مسار تبدأ بالتضرع إلى الله ودندنة الأدعية التي تدعو إلى المصالحة وإنهاء الانقسام.

إن انتشار ملايين قطع السلاح بأيدي المصريين، إضافة إلى إغراق غزة بشتى أنواع الأدوات الحربية يضر بمصر الدولة والأمن والاستقرار، ويشرع أبواب الدولة العربية الأكبر على أشكال العبث والفوضى والإيديولوجيات التكفيرية والإجرامية، ويجعل من قطاع غزة قنبلة موقوتة بوجه أهلها، وبذات القدر يسهل على العدو الإسرائيلي التجييش ضدها واستهدافها بآلة دماره وإجرامه. وإذا كانت حماس حريصة على المصلحتين الفلسطينية والمصرية، عليها الكف عن محاولة استثمار اللحظة الراهنة من خلال السعي لجني المكاسب الآنية دون أدنى استشعار لخطورة المسار المظلم الذي تنقاد إليه الأمور. فهي- حماس- أمام استحقاق دفع ضريبة مؤلمة من جلدها وجسمها، وبمعنى أوضح هي مطالبة بقطع أيدي تلك الطبقة المتنفذة التي باتت تشكل عصب موازين القوى المنتشرة داخلها، لأن هذه الطبقة وحدها هي التي تستفيد من العصابات المتغلغلة في النسيجين الأهلي والجغرافي لشبه جزيرة سيناء.

وهي أيضاً- الطبقة الحمساوية- تشكل الملاذ الآمن- من خلال الأنفاق والانسجام العقائدي- والمبرر السياسي، و خلال كون العصابات المصرية المسلحة تمد يد العون بالسلاح ومشتقاته لقوى تعتبرها مقاومة.

إضافة إلى ما سبق، على حركة حماس من غير التباس أو تكتكة أن تحسم موقعها ودورها في معادلة الواقع الحالي والتصرف بنظافة وحرص شديدين تجاه الانحياز لمصلحة الشعبين الفلسطيني أولاً ثم المصري، وذلك بالكف عن التعايش مع نقيضين متعاديين ومتصارعين، والأخذ بأولوية تعميم الأمن والاستقرار على ضفتي الحدود.

فالوضع الحالي مثالي بالنسبة إلى القطاع، إذ تضاءلت مفاعيل الحصار إلى حدود معقولة، وتحسنت الإجراءات الأمنية واليومية على الجانب المصري، مما يرتب على سلطة حماس في غزة ملاقاة الايجابية المصرية بمثلها أو بأحسن منها، من خلال الاعتراف بمركزية مصر كبوابة للقطاع وفلسطين، وأيضاً من خلال احترام الخصوصية السياسية لمصالح مصر والتزاماتها الإقليمية والدولية في ظروف ما بعد الثورة.

وإذا كان لحماس الحصة الأكبر من المسؤولية تجاه ما حصل مؤخراً في سيناء- حتى لو انكرت علاقتها بذلك- فإن النتائج المباشرة وغير المباشرة قد وضعت السلطات المصرية الجديدة أمام خيارات تناقض الخطاب التاريخي للسلطة الاخوانية، كون أحداث سيناء شكلت مفاجأة كبرى وغير سارة حرفت المسار السياسي عن سياقه المفترض الثبات عليه، لأنها مثلت إحراجاً غير مسبوق لهيبة الدولة ومست بمصداقية تعايش السلطة الجديدة مع مكونات الطيف الثقافي- السياسي لمشهد ما بعد الثورة. فالمخيف مستقبلاً هو أن تنتعش بعض الأفكار التكفيرية وتنهض خلايا كانت نائمة أو مستحدثة في أنحاء مختلفة من جمهورية مصر العربية تعيد إلى البلد مشاهد دموية وإجرامية عانت منها في الماضي واستطاعت تجاوزها، رغم الأثمان الباهظة التي دفعتها.

إن هذا التخوف جدي وقائم على فرضية انتعاش الحالة التكفيرية والمتطرفة في بلاد عديدة من عالمنا العربي، والدولة المصرية المستجدة ليست بمنأى عنها.

وانطلاقاً مما سبق نقول التالي:

على حماس أن تقرر موقعها. هل هي حالة وامتداد للعقيدة الاخوانية، أم هي فلسطينية الهوية وتنتمي إلى قضية لا تحتمل الالتباس والتلاعب والاستعمال كأداة في مشاريع الآخرين؟

لشقي السؤال مترتبات والتزامات ومسارات مختلفة، حتى لو تلاقت عرضاً أو صدفة في لحظة ما. لماذا؟

1- السلطة الاخوانية في مصر أعلنت دون مواربة التزامها كافة الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين مصر والدول الأخرى. وحتى لو جرى تعديل موضعي لبند ما في اتفاقية كامب ديفيد، إلا أن روح الاتفاقية وأعصابها تبقى نفسها، مما يعني أن حماس وإن تماهت مع المكون الأيديولوجي للإخوان المصريين إلا أنها لا تستطيع استثمار ذلك في معادلة الصراع مع العدو.

2- حماس قبضت ولم تزل على عنق القطاع، فباستثناء محاولة فرض العقيدة الإخوانية والتعصب الديني- الاجتماعي، ما الذي قدمته لفلسطين وقضيتها؟

3- ومما يزيد الطين بلة، أن سلطات الاحتلال حاولت ولم تزل تحاول ابتزاز السلطة الوطنية ونفي شرعيتها لصالح التلويح بوجود سلطة وكيان جغرافي في غزة، مما أثار نشوة حماس وفرحتها جراء دعوة عدد من المسؤولين الصهاينة إلى الاعتراف بها كسلطة شرعية وكدولة لا يهم ماذا تسمي نفسها- أي أن فلسطين كلها تختصر بجغرافيا القطاع.

4- إن قتل حماس لروح الديمقراطية الفلسطينية في غزة، ومحاولاتها الدائمة تصفية التنوع الثقافي- السياسي الذي مثل ولم يزل البعد المشرق للوطنية الفلسطينية ليس أقل من تماه عميق وحاسم مع نماذج الأنظمة الشمولية البائدة على اختلاف نماذجها ومكوناتها العقائدية. وهي إذ تسلك هذا المسار الشديد العداء للمحطات الانتخابية، والمقفل على أشكال احترام التنوع والرأي العام، لا يمكن أن ينتج مجتمعاً يحمل قضية ويسهم في رفع شأنها وإمدادها بمصادر القوة التي تحتاجها. مما يعني أن حاجة حماس للشعب تختصر بكونه المستهلك الذي يحتاج إليه تجارها. والمصدر المالي الذي يحتاجه جباتها. والضحية المتحملة التي تتاجر باسمها.

5- بين مفهوم الدولة الحديثة وثقافة الظلام الحمساوية طلاق. لذلك من الصعب على حماس تنظيف ذمتها من جريمة سيناء وغيرها من الجرائم- السابقة واللاحقة. كما يستحيل عليها ولسبب بنيوي أن تسهم في إنعاش القضية الفلسطينية والحسم العملي- الذي لا يشمل الهذيان والإدعاء والتباكي- في مسألة المصالحة وإنهاء الانقسام.

للأسف، لم نزل خائفين من فكرة قطاع غزة هو دولة فلسطين- إلى أن تثبت حماس عكس مسار الواقع.