بقلم: علي الفرا

منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عانى ذوو الإعاقات الجسدية والعقلية بشكل خاص من أوضاع إنسانية صعبة، وواجهوا صعوبات بالغة في النزوح من مكان إلى آخر، ولم تشفع لهم إعاقتهم من البطش والتعذيب والقتل والإعدام بدم بارد من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، في مخالفة واضحة للأعراف والمواثيق الدولية.

ومع دخول "وقف إطلاق النار" حيز التنفيذ في الـ19 من كانون الثاني/يناير الجاري، خرج المواطنون لقراهم وبلداتهم في أطراف مدينة خان يونس جنوب القطاع لتفقد منازلهم والبحث عن المفقودين.

وفي بلدة القرارة شمال خان يونس، عثر مواطنون على جثمان الشاب باسم أبو حليب الذي كان يعاني من إعاقة ذهنية جراء التعذيب الذي تعرض له من قبل قوات الاحتلال في حربها على القطاع عام 2014.

يقول المسعف محمد أبو لحية: إن منطقة السريج الذي عثر فيها على جثمان أبو حليب تقع شرق القرارة، وكانت تتعرض لقصف الاحتلال المدفعي وإطلاق النار قبل الحرب، وذلك عندما يقترب صيادو العصافير ورعاة الأغنام من السياج الحدودي.

وأوضح أنه وبعد تفحص جثمان الشهيد، تبين أنه تعرض لإطلاق نار على الرأس مباشرة، ما أدى إلى استشهاده.

من جانبه، قال شقيق الشهيد حازم: إن "شقيقه خريج جامعة وكان إنسانًا مهذبًا ولكن في حرب عام 2014 اعتقلته قوة خاصة من جيش الاحتلال بالقرب من منزله واعتدت عليه بالضرب المبرح وتركه الجنود وهم يعتقدون أنه مات".

وأوضح أن طواقم الإسعاف تمكنت من انتشاله واكتشفت أنه حي بعد أن نجا من موت محقق، لكن الاعتداء خلف له إعاقة ذهنية.

وأضاف: "كان لا يؤذي أحدًا ولكن لا يفهم ما يدور حوله، وفقد قدرته على الحوار مع الآخرين، حيث أصبح يردد بعض الكلمات التي لا تشكّل جملاً مفيدة وأصبح يعاني من فرط الحركة".

وأشار إلى أنه في شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 الماضي، أعلن جيش الاحتلال الجزء الغربي من بلدة القرارة "منطقة إنسانية"، فعادوا إلى منزلهم واستقروا فيه، ليفاجؤوا بأوامر إخلاء من الاحتلال لمنطقتهم، وافتقدوا أخاه باسم وبحثوا عنه كثيرًا إلا أن محاولاتهم كافة باءت بالفشل.

وقال أبو حليب: إن "أخاه عندما يشعر بالخوف يبدأ بإصدار أصوات قد يكون هدفها طمأنة نفسه أو لفت انتباه الآخرين، وإنه وفقًا لشهود عيان في منطقة شرق القرارة سمعوا صوته في بداية العام الحالي يسير باتجاه الغرب".

وأكد أن المواطنين الذين تمكنوا من الوصول للمنطقة عثروا على جثمانه وقد تعرض لعدة طلقات نارية في أماكن متفرقة من جسده، وفقًا لتقديراتهم أنها أطلقت عليه من مكان قريب، ما يعني أنه أعدم بدم بارد.

وفي جريمة مشابهة، استشهد المواطن حسن جرير (64 عامًا)، الذي كان يعاني من إعاقة ذهنية وفقدان النطق.

وقال شقيقه ياسر: إنه "تم العثور على شقيقه الأكبر حسن في منطقة أبو العجين شمال القرارة، وقد دفنت جثته تحت أنقاض منزل هدمته جرافات الاحتلال وهو بداخله".

وأوضح جرير أن شقيقه حسن لم يكن يستوعب ما يدور حوله بسبب الإعاقة، ولا يؤذي أحدًا أو يعتدي على أحد، يجلس فترات طويلة في المنزل حتى إن شعر بالجوع لا يمكنه التعبير، لذلك كان يحتاج لرعاية خاصة.

وقال: "كانت أسرتي تقيم في خيمة على بحر القرارة، وكان أخي نائمًا داخلها، وبعد فترة ليست بالقليلة ذهبت زوجتي لتفقده لتفاجأ أنه ليس موجودًا وأنه بعد بحث طويل لم يجدوه".

وأكد جرير أن بعض أقاربهم أكدوا أنهم رأوه متجهًا إلى منطقة شمال القرارة، وحاولوا النداء عليه للرجوع إلا أنه لم يسمع منهم ولم يتمكنوا من اللحاق به، خاصة أنه دخل في منطقة خطر حذرت قوات الاحتلال من دخولها.

وأشار إلى أنه اختفى شقيقه قبل بداية "وقف إطلاق النار" بأقل من شهر، وأنه ذهب لمنزلهم القريب من "السياج الفاصل" لتخرج جرافة ترافقها دبابة وتهدم البيت على من بداخله.

وأكد جرير أن أحد جيرانه كان مختبئًا في منزله ومن شدة خوفه لم يتحرك، مؤكدًا أن جرافة الاحتلال هدمت المنزل على من بداخله وأن شقيقه كان بالداخل.

وقال: "تمكنت طواقم الإنقاذ بعد محاولات عدة من الوصول إلى المكان، وعثرت على جثة شقيقه تحت أنقاض المنزل".

أما المواطن "عبد الجابر" والذي يعرفه معظم أبناء خان يونس حيث كان يقف دائمًا وسط المدينة بمظهره المميز وصوته المعروف لدى الكثيرين "بدي شيقل"، وكان قنوعًا يرفض أي عملة أكبر من الشيقل.

ويقول جار عبد الجابر، المواطن كريم صادق: "عندما صدر أمر إخلاء مدينة خان يونس، خرج الجميع ولم نعد ندري شيئًا عنه، فهو يرفض الجلوس في منزل، ورغم محاولات أهله الدائمة بإقناعه العيش معهم إلا أنه ما يلبث أن يهرب ليعود لمكانه".

وأضاف: "خرجنا من خان يونس وانقطعت أخبار عبد الجابر وكنّا نسمع أنه استشهد ولم نتأكد من مصداقية الخبر".

وأشار إلى أنه في شهر نيسان/أبريل الماضي وعقب إعلان جيش الاحتلال انتهاء عدوانه البري في مدينة خان يونس، عاد الناس لبيوتهم ووجدوا أشلاء وجثث في الطرقات والمنازل.

وأكد صادق، أن بعض المواطنين عثروا على جثة عبد الجابر معلقة على أحد الأعمدة، الأمر الذي يدل على أنه تعرض للتعذيب والشنق على يد قوات الاحتلال.

والمواطنة "هندة" (50 عامًا) التي عرفها أهالي منطقة القرارة جيدًا، حيث كانت تجوب الشوارع وتطرق المنازل تطلب الطعام فقط ولا تقبل أن تأخذ مالاً، فهي من الصم والبكم ولا أحد يعرف من عائلتها وكيف وصل بها الحال لذلك.

وقال المواطن حسن أبو جميزة: إنه "منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار عاد لمنزله في القرارة ليجد جثة هندة ملقاه بين الأشجار التي اقتلعتها جرافات الاحتلال".

وأكد أبو جميزة أن هندة، وهذا الاسم الذي أطلقه عليها أهالي المنطقة، يبدو أنها تعرضت لإطلاق نار وقد تكون تعرضت للدفن وهي ما زالت على قيد الحياة.

وشهدت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، جرائم يندى لها جبين الإنسانية وترفضها جميع الشرائع السماوية والقوانين الدولية، حيث قتل الاحتلال بدم بارد الأطفال والنساء والشيوخ، وقصف المنازل على رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، وتركت الجثث في الطرقات تنهشها الكلاب والقطط والطيور الجارحة.

وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حذر خبراء أمميون مستقلون من أن الفلسطينيين ذوي الإعاقة يواجهون مخاطر حماية لا تطاق، بما في ذلك الموت والإصابات التي لا مفر منها، وسط هجمات عشوائية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي دمرت البنية التحتية الحيوية، وقضت على إمكانية المساعدة الإنسانية.

وقال الخبراء المستقلون في بيان: "إن مأساة داخل مأساة تحدث في غزة، حيث تركت حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأشخاص ذوي الإعاقة بلا حماية تمامًا. يُقتل ويُصاب الأشخاص ذوو الإعاقة بهجمات عشوائية على الرغم من عدم تشكيلهم أي تهديد أمني، مما يجسد الهجوم المتعمد على المدنيين من قبل إسرائيل".

ولاحظ الخبراء أن أوامر الإخلاء المتعددة تجاهلت تماما الأشخاص ذوي الإعاقة الذين غالبًا ما يواجهون صعوبات بالغة في اتباع التعليمات أو فهمها.

وأضافوا: "لقد كانوا في وضع مستحيل إما أن يتركوا منازلهم والأجهزة المساعدة التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة أو يبقوا بدون عائلاتهم ومقدمي الرعاية ويتعرضون لخطر متزايد من القتل. أثناء محاولات الإخلاء، تتعرض النساء والفتيات ذوات الإعاقة بشكل خاص لمخاطر متزايدة وصدمات نفسية أخرى".

وحذر الخبراء الحقوقيون من أن الحواجز المادية والمعلوماتية وحواجز التواصل تجعل من المستحيل تقريبا على الأشخاص ذوي الإعاقة الوصول إلى المساعدات الإنسانية النادرة للغاية المتاحة، حيث تواجه النساء والفتيات ذوات الإعاقة تحديات مركبة تزيد من عزلتهن.

وشددوا على أنه مع انهيار النظام الصحي في غزة وعدم توفر الإمدادات الطبية، رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلية إنشاء نظام للإجلاء الطبي ولم تسمح بدعم منقذ للحياة، حتى يتمكن الآلاف من الأشخاص ذوي الإعاقة، وخاصة الأطفال، من الحصول على المساعدة التي يحتاجون إليها بشدة.

ونبهوا إلى أن الفلسطينيين ذوي الإعاقة، بما في ذلك الأطفال والنساء والفتيات وكبار السن، يواجهون أذى نفسيًا شديدًا وصدمات نفسية، وأن الأشخاص ذوي الإعاقات الفكرية والنفسية الاجتماعية هم أيضا في مواقف هشة للغاية.

وقبيل اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، بلغ عدد ذوي الإعاقة نحو 68 ألف معاق في القطاع، أي ما نسبته 2.6% من إجمالي السكان.

وقال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني: "إن عدد الإصابات الجسيمة التي غيّرت مجرى الحياة في قطاع غزة والتي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة قُدرت بحوالي 25% من إجمالي عدد الإصابات، أي ما لا يقل عن 26,140 شخصًا، حتى تاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2024".

وبين السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 والتاسع عشر من كانون الثاني/يناير 2025، شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا على قطاع غزة، أسفر عن استشهاد وإصابة ما يزيد على 158 ألفًا، معظمهم أطفال ونساء، وخلفت ما يزيد على 14 ألف مفقود.