إن من أعظم خيبات الأمل التي ينتهجها القادة ويجرون معهم شعوبهم إلى المصير المجهول هي تكرار الأخطاء بنفس الأسلوب دون استيعاب دروس الماضي. غزة التي تعتبر النموذج الحي على البلاء والدمار والانقسام والحصار وحرب الإبادة شهدت أعواماً من المعاناة بسبب القرارات المتسرعة والافتقار إلى دراسة أساليب العدو بشكل دقيق. ومع ذلك كانت الثقة المفرطة في دول كانت تدعي أنها السند والعون وقت المحن والأزمات وأيضاً دول تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان إحدى أخطر الإخفاقات حيث أثبتت هذه الدول عجزها عن مواجهة التوحش الإسرائيلي تاركة الفلسطينيين وحدهم في مواجهة المحنة.
مع تصاعد وحشية الحرب على غزة ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة من العنف الصهيوني وقف العالم صامتًا. هذا الصمت كان بمثابة صدمة نفسية عميقة للشعب الفلسطيني وصدمة أيضاً للأحرار في العالم الذين دعموا قضيتنا. اليوم يصرخ لسان حال سكان غزة: أوقفوا الحرب بأي ثمن. بالنسبة لهم كل من يريد استمرار الحرب يعتبر خائناً ومنتفعاً في نظر شعب منهك بالحصار والدمار.
غزة ليست مجرد أرضاً مليئة بالحجارة بل هي موطن لبشر لهم أحلام وآمال وحياة يريدون التمسك بها. في الوقت الذي يتحدث فيه الكثير من المحللين في بعض القنوات الفضائية والسياسيين الذين يستفيدون من أجندات خارجية نجد أنهم لم يعيشوا في خيمة أو يدركوا واقع الشارع الغزي وما يعانيه. هؤلاء يعبرون عن آرائهم ووجهات نظرهم دون أن يكونوا على تماسٍ مباشر مع واقع الموت والدمار. غزة تعج بالناس الذين يرفضون الموت ويريدون الحياة. إن الاختبار الحقيقي بين الحياة والموت لا يدركه إلا من يعيش التجربة المأساوية وليس من يقف خارجها ويصورها بفيلم وثائقي منفوخ كالبالون بعنوان ما خفي أعظم يتفلسف وينظر من أبراج عالية بعيدًا عن المعاناة الحقيقية.
لا يمكن إنكار الدور الذي تلعبه المقاومة في الدفاع عن الحقوق والوجود الفلسطيني. ومع ذلك فإن المسؤولية في إدارة هذه المقاومة لا بد أن تفرض نفسها كأولوية وبفكر جديد ومختلف. كانت حماس قد دعت مراراً وتكراراً إلى تصعيد المظاهرات والاعتصامات ومطالبة الجماهير بالتحرك لنبذ العنف الإسرائيلي وإيقاف الحرب على غزة، لكن مع اشتداد المعاناة وعدم رضوخ الكيان الصهيوني للمطالب الدولية بوقف الحرب وضرب كل القوانين الدولية بعرض الحائط، ماذا فعلت حماس سوى أنها باتت في مأزق لعدم استجابة حلفائها إلى أن وصل بها الحال التخبط في عدم اتخاذ القرارات التي لا تتوافق مع تطلعات البشر في قطاع غزة.
يبدو أن الإصرار على هذا النهج دون تخطيط وإدراك يجعلنا نقع في نفس الأخطاء مراراً وتكراراً. إن العقلية القيادية الحالية التي تقود المرحلة ليس لديها الوعي الكافي بخطورة الوضع الفلسطيني. إننا أمام إبادة حقيقية تفتح الباب أمام المزيد من الكوارث. على حماس أن تدرك أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى لملمة الجراح لا إلى فتح جروح جديدة.
مدينة جنين اليوم تشهد ما يشبه تكرار سيناريو غزة، حيث يسعى بعض قادة حماس إلى تحويلها إلى مسرح جديد للصراع دون مراعاة لحالة الشعب الفلسطيني في الضفة وإهدار المقدرات وزهق الأرواح لنعود إلى نقطة الصفر. إن هذا العبث المرعب يدفعنا للتأمل والتساؤل: إلى أين نحن ذاهبون؟ كيف يمكننا أن نستمر في هذا المسار الذي لا يجلب سوى الدمار ويبدد طاقاتنا ودماء أبنائنا؟ ألا يكفي أن نرى التاريخ يعيد نفسه دون أن نخرج منه بدرس أو عبرة؟ هذا اللهو الدموي يجعل من الضروري التفكير بجدية وبعقلانية في كيفية تغيير هذا الواقع المؤلم.
إن استمرار هذا النهج يثير تساؤلات خطيرة: من المستفيد من تحويل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى صراع داخلي؟ وإذا كانت تجربة حماس في غزة قد فشلت على عدة مستويات، فلماذا يتم الإصرار على تكرارها في الضفة؟.
الإصرار على استخدام أسلوب تفكير قديم وافتقار الخطة إلى رؤية استراتيجية يجعل الشعب الفلسطيني أمام خطر الإبادة الجماعية. إسرائيل التي لطالما استغلت أخطاء بعض القادة في حركة حماس غير المدروسة تهدف إلى تعميق المعاناة الفلسطينية واستنزاف الطاقات. لذا يجب على الجميع أن يدركوا أن لكل مرحلة متطلباتها الخاصة وأن المقاومة ليست مجرد سلاح بل هي رؤية وإعداد واعٍ يتجاوز ردود الأفعال العاطفية.
كفاكم اقحاماً لجنين في معارك غير مدروسة واتخاذ قرارات تقود إلى المزيد من المعاناة. لقد حان الوقت لأن تعيد قيادة حركة حماس النظر في أسلوب إدارة الصراع واحترام التضحيات الجليلة التي قدّمها الشعب الفلسطيني والعمل على اتخاذ قرارات تستند إلى الحكمة والتخطيط العميق بعيدًا عن أي اعتبارات قد تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني المأساوي.
يجب علينا كفلسطينيين سواء كنا في المهجر أو الداخل أن نكون مدركين لواقع الحال وأن نتحدث من منطلق المسؤولية الأخلاقية والوطنية تجاه أبناء شعبنا الذين عاشوا معاناة تفوق الوصف. حياة كل فلسطيني، صغيراً كان أم كبيراً لا تقدر بثمن، ودماؤهم غالية علينا جميعاً. الحفاظ على أرواح الأبرياء ليس تنازلاً عن الحقوق أو استسلاماً بل هو جوهر النضال الوطني الذي يسعى إلى بناء المستقبل على أسس من العدل والكرامة.
ومع ذلك لا يعني هذا بأي حال أن نترك الاحتلال الإسرائيلي يعيث فساداً في أرضنا وينهب مقدراتنا. مقاومة الاحتلال حق مشروع للشعب الفلسطيني، لكنها تحتاج إلى استراتيجية واعية ورؤية بعيدة المدى توازن بين حماية الإنسان الفلسطيني، واستمرار الكفاح من أجل الحرية. المقاومة الحقيقية هي تلك التي تبني ولا تهدم، وتحرص على حياة الشعب الذي هو عماد القضية وركيزتها الأساسية.
القرارات المتسرعة والصراعات غير المدروسة لا تخدم سوى أعداء الشعب الفلسطيني فيما نحن بأمس الحاجة إلى الوحدة والتكاتف في هذه المرحلة الحرجة. قضيتنا عادلة وشعبنا يعض على الجراح ولن يستطيع الاحتلال كسر إرادتنا إذا كنا موحدين ومدركين لحجم التحديات التي تواجهنا.
لذلك فإن هذه اللحظة تدعونا جميعاً إلى التأمل وإعادة تقييم المسار الذي نسير عليه. الشعب الفلسطيني يستحق قيادة تعمل بحكمة تحمي دماءه وتحترم كرامته. فلسطين ليست مجرد أرض، بل هي وطن ينبض بحياة أطفالنا وشبابنا وشيوخنا ونسائنا وأحلامنا وذكرياتنا، وعلينا أن نكون على قدر المسؤولية في حماية الإنسان الفلسطيني وضمان مستقبله المشرق.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها