الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
كنتُ أصغر إخوتي، وكانت والدتي مُتقدِّمة في العمر، غير أنّ المجزرة بأهوالها وما شاهدناه وسمعناه عنها، هدّ أجسادنا وأنهك أرواحنا ومزّق قلوبنا، فصرنا جميعا خارج تصنيف الزمن ولا فرق بين كبير وصغير، شاب أو شيخ.. كان لا بدّ علينا أن نستمرّ في الحياة مهما كانت الظروف قاسية ومتوحّشة، وغياب إخوتي ألقى على كاهلي مسؤولية العناية بأمي وبالطفلتين الجائعتين.
شعرتُ بقوة سحرية غريبة تسكنني، ودافع كبير لتأمين الخبز والحليب لعائلتي، فلم أعد أشعر بالخوف من أيّ شيء، وسألتُ أمّي أن تعطني بعض المال كي أذهب لشراء الخبز، غير أنّ أمي أشفقت عليّ وعلى صغر سنّي، ولكنني كنتُ مُصمِّمة على ذلك، ولم يكن أمام أمي من خيار آخر سوى أن تستجيب لتصميمي..
في الصباح، خرجتُ من المدرسة التي لجأنا إليها، وبي رهبةٌ من الأصوات الغريبة المرعبة، وأمام عينيّ يمتدّ ظلامُ المدن رغم أنّ خيوط الشمس الأولى كانت تتدفّق في الشوارع.. وتماوجَت في ذهني أفكارٌ وأفكار عن الغربة الروحية للناس في وطنهم، وعن صراع الوجود والعدم في قلبٍ واحد، وعن صدام الشيء واللاشيء في أعماقي..
في طريقي إلى الفرن من أجل شراء الخبز، تجاذبتني الأفكار السوداء والرمادية والتي لا لون لها، ولكنني كنت عاريةً من كلٍّ خوف رغم أن عمري وقتها لم يتجاوز الخامسة عشر، فقد كنت زهرة من زهرات المُخيّمات الفلسطينيات التي سُقيت بالدم ورُضاب الموت.. وقبل وصولي إلى الفرن، تملّكني فضولٌ لمعرفة ما حدث حولنا، فذهبت استطلعُ الأحداثَ بتفاصيلها، وفي ذهني تساؤلٌ لا يبحث عن إجابة بقدر ما كان يبحث عن تأكيد: هل ما عشناه وسمعناه ورأيناه حقيقي أم كابوس؟
كانت الأمور قد بدأت تستعيد هدوءها نسبيا، وذلك بعد اليوم الثالث من المجزرة. وقرّرتُ العودةَ إلى المخيم لألقي نظرات الفضول ليس إلّا.. حاولت النزول إليه عن طريق "أرض جلول"، وهي منطقة خارج المخيم لكنها تصلنا به، فلم أستطع الوصول.. رأيتُ الجثث والدمار الهائل. حاولت الدخول مرة أخرى عن طريق مخيم "صبرا" لكني أيضًا لم أتمكّن من ذلك. عدتُ عن طريق "حي فرحات"، نظرتُ هناك فرأيت بيتا مُهدّمًا ورجلا منتفخا جدا، فانتابني الخوف الشديد، فعدتُ أدراجي.. فضول الصغار هو الذي دفعني إلى تلك "الجولة"، لكني لو كنت أكبر من عمري، لما قمتُ بها نتيجة للمخاطر الكثيرة والمرعبة التي يمكن أن أتّعرض إليها في الطريق.
ذهبتُ إلى الفرن، ووقفتُ في طابور طويل جدا حتى يصل دوري وأتمكّن من الحصول على الخبز. فكّرتُ بأنني إن حصلت على خبزٍ أكثر فلن أعود في اليوم التالي مخافة الأحداث المتطورة كل دقيقة.. غير أنني لم أتمكّن من الحصول إلا على ربطة خبز واحدة فقد كان الطابور طويلا جدا ولم أستطع معاودة الكرّة والوقوف في الطابور لمرّة ثانية من أجل الحصول على ربطة خبز أخرى، فعدتُ أدراجي إلى المدرسة التي لجأنا إليها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها