الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
بعد دخولنا إلى مستشفى غزّة، كان هناك العديد من الجرحى أكثر إصاباتهم في مختلف أنحاء الجسم. كانت المرة الأولى التي أرى فيها الدم المنتشر في أرجاء المكان بهذا الشكل. هذا الأمر شكّل صدمة كبيرة أوجعتني، أشعرتني بالاختناق ولم أتمكّن من الصراخ أو التّعبير عمّا يدور في داخلي.
الجميع مكلوم، وأنا لم أفعل شيئا سوى المراقبة والالتفات يمينا وشمالا حتى وقعَت عيني على شاب مُلقى على الأرض، اقتربت منه لأتأكّد من هويته وإذ به صديق أخي، لقد كان من عائلة "كايد"، لم يبلغ حينها العشرين ربيعا، كان الأطباء يحاولون إنعاش قلبه، نظرتُ إليه وبحثتُ عن مكان إصابته لكني لم أفهم شيئا ولم أرَ شيئا ولم أعلم سوى شيئا واحدا بأنّ الأطباء لم يستطيعوا إسعافه.. لقد توقّف قلبه لينضم إلى قافلة الشهداء، هذا الأمر جعلني أبكي بشكل هيستيري خصوصا وأنني رأيته يحتضر أمامي، بدأت أشعرُ بشيخوخة العمر، وبأنني منذ زمن طويل وُجِدت على هذه الأرض ولا أعلم كيف أستطيع أن أهرب أو أخرج منها.
كان الشباب والفتيات والجميع منهمكون في عمليات الإسعاف.. يزفّون الشهداء.. ويدفنونهم، ويتواصون خيرا ورحمة بالجرحى.. أقبل الليل ولم نزل في مستشفى غزّة، وكانت صدمتي الثانية عندما جاؤوا بفتاة من المُخيّم تُدعى "نوال العلي"، لقد كانت ضمن الجرحى الذين لم تعد تستوعبهم غُرف المستشفى، فكانوا يهرولون لإسعافهم وهم ملقون على الأرض، لم يعد هناك أسِرّة ولا أي شيء آخر. كانت "نوال" أيقونة في الجمال، وكنت أحبها جدا. كانت ضمن فرقة "الدّبكة الفلسطينية" التي كان أفرادها يمثّلون التراث الفلسطيني بأبهى صوره وتقاليده وأغانيه القديمة.
عدا عن ذلك، فقد كانت "نوال" صديقة أختي، وكنت أحضر دائما نشاطاتها وأشعر بسعادة كبيرة لِما تقدّمه هي وفرقة "الدّبكة الفلسطينية". لكن اليوم رأيتها مُلقاة جريحة على الأرض، لم أعلم منذ متى اخترقَت الرصاصةُ ساقَها، ذهبتُ مسرعة نحوها، نظرتُ إليها وبحثتُ عن مكان إصابتها التي كانت على ما أذكر في الرجل اليمنى.
لقد كان شكلها مخيف جدا ومُزرقّ، وكان حجم الساق كبيرا. صُعقت لهذا المنظر، كانت تصرخ بصوت عالٍ من الوجع والألم، غير أن تدافع الأعداد الكثيرة من الجرحى.. والجميع يحتاجون إلى إبر البنج والمسكِّنات، ومنهم من لا يُجدي معه المُسكِّن لتخفيف الوجع.. وفي أحيان كثيرة، كانت الأدوية تنفذ، لكن المصابين والمسعفين.. كانوا يواسون بعضهم البعض.
ذهبت إلى أمي لأخبرها ما رأيت وما حدث، ومن ثم تركتها هي وبنات أختي، وعدتُ إلى "نوال". في ذلك اليوم كان الطقس حار جدا، فأخذتُ جزءا من كرتونة وبدأت ألوِّح بها حتى لا تشعر "نوال" بالحرّ أبدا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها