بقلم: الشاعرة الفلسطينيَّة نهى عودة
كان الحيُّ مُمتلِئًا بالوجوه الجميلة، وأكثرُها لا تعرف سوى الابتسام بكل ما في الحُبِّ من إشراقٍ، تستمدُّه من مواريث ذاكرة تتجدَّدُ كلَّ يومٍ. عليكْ أنْ تُبكر في الخروج من بيتك إنْ كان لديك موعدٌ مٌحدَّدٌ تودُّ الوصولَ إليه، ففي هذا التَّجمُّع الفلسطيني بمنطقة (وادي الزينة) في إقليم الخَرُّوب في لبنان، لا يُمكنك أنْ تصِل إلى مقصدِك دون أنْ تُنفِقَ وقْتًا، قد يقصُر أو يطُول، في التَّوقُّف وإلقاء التَّحيَّة على السَّاعِين في الدُّروب الضيِّقة لينْحتوا أرْزاقَ أهاليهم من صخرة الحياة، وكلُّهم استبشارٌ بميلادٍ يومٍ جديدٍ يُصافِحون صَباحَه ليعلنوا بأنَّ نهارَهم قد بدأَ.
الفلسطيني بطبيعته يَمِيل إلى أبناء وطنه بطريقةٍ مُختلفةٍ عن غيره، فالوجعُ واحدٌ، والتَّشرُّد واحدٌ، والمعاناة واحدةٌ، ويجتمعون على حُبٍّ مُقدَّسٍ لوطنٍ لم يفقدوا أمَلَ العودةِ إليه يومًا ما. يسألون الحياةَ عن بعضهم البعض، ويعيشون في تضامنٍ كأنَّما هُم جسدٌ واحدٌ تتقاسمه الشوارع والأزقَّةُ والبيوت داخل المُخيَّم، فلا ترى مَسكِينًا هنا أو هناك يتأوَّهُ من أثقالِ العيْش، ولا تُترَك امرأةٌ تحمل أغراضَ منزلها وحدها دون مساعدةِ أبناء الجيران، ولا تُبصِر شيْخًا يُعوِّل على عصاه وحدَها ليتخطَّى حفرةً عابرةً في الطريق دون أنْ تمتدَّ إليه سواعدُ الشَّباب لتسندَه..
عاداتٌ اجتماعية كثيرةٌ، تقومُ على المحبَّة والتَّقارب والتَّضامن بين الناس، حَمَلها الفلسطيني معه إلى مخيَّمات لجوئه، وما زال يُمارسها في يوميات حتى الآن، فهي منبعُ قوَّته وصموده في مواجهة كل مشكلات حياته..
كنتُ أسال جدتي الجميلة رحمها الله عن سِرِّ التآخي الكبير الحاصل بين هؤلاء الناس ومدى قُرْبهم العميق بين بعضهم البعض، فكانت تخبرني بأنَّ معظمهم قد خرجوا من المُخيَّم. عانوا معاناة شديدة طوال العقود الماضية. جُمِعَت قلوبهم على طريق العودة، وبأنَّهم هنا لوقت يعلمون متى بدأ ويجهلون إلى متى سيطُول، ولكنهم مُتيقِّنون تمامًا من عودتهم إلى رِحاب فلسطين.
كنتُ شَغوفةً بمعرفة أدقِّ تفاصيل الحياة اليوميَّة لأبناء الجيل الأوَّل الذي عاش مآسي التَّهجير من أرضه، كيف كانوا يعيشون في فلسطين؟ كيف كانت رائحة البنِّ في زمنهم؟ كيف كانت أيامهم تمضي وهم يستنشقون هواءَ بلادهم دون أنْ ينغِّص عليهم طمأنينتهم ويشردهم لقيطٌ تسلَّل إلى وطنهم ثم تغوَّلَ وزرع حقده وكرهه، ومارَسَ عليهم جميع أشكال الظُّلم والقهْر والإجرام ليستبدل شعبًا أصيلاً مُسالِمًا بلفيفٍ استقدمه من كل الدُّنيا ثمَّ سمَّاه شعبًا؟
لكن العُمرَ لم يُهمل جدَّتي أنْ تروي لي كل حكاياتها وذكرياتها.. رحلتْ مثل كثيرين وهي مسكونةٌ بحلم العودة إلى وطنها، ولم تكن تعلم بأنَّها ستُدفَن في لبنان، ولن تعود أبدًا إلى قريتها "البروة" قَضاء عَكَّا بفلسطين.. رحلتْ جدَّتي بعدما زرعتْها أشجارًا تُسقى كل يومٍ بماءٍ روحيٍّ يُسمَّى "العودة".. العودةُ إلى فلسطين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها