شكّلت المواقع الأثرية هدفاً رئيساً في جميع الحروب التي شنّها الاحتلال الصهيوني على غزة، ومنها ميناء الأنثيدون الذي يعود بناؤه إلى ثمانمئة عام قبل الميلاد، حيث أُصيب أكثر من مرّة سابقاً، وتعرّض للتدمير خلال العدوان الحالي، كما أشار حمدان طه أول أمس في محاضرة "تدمير التراث الثقافي في غزّة"، التي نظّمتها "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، وبُثّت على منصّاتها الإلكترونية.

المحاضرة التي قدّمها الباحث عصام حلايقة، أضاءت تاريخ أكثر من أربعة آلاف عام في غزّة التي ذُكرت في النقوش المصرية والمعينية واليونانية، باعتبارها مركزاً إدارياً ومنطقة استراتيجية على طريق التجارة بين الحضارات القديمة في المنطقة.

وتوقّف الباحث في علم الآثار والتراث الثقافي حمدان طه، عند جميع المواقع التي قصفها العدوّ، مستعرضاً صوراً قبل التدمير وبعده لكلّ المواقع، مثل كنيسة جباليا التي شُيدّت في منتصف القرن الخامس الميلادي، وبدأت فيها عمليات ترميم واسعة خلال الفترة الماضية، لكنها تعرّضت للدمار الكامل نتيجة القصف المباشر.

لم ينل أكثر من مئة موقع تراثي تم تدميرها، أو تضرّرها بشكل كبير، الاهتمام الإعلامي ذاته الذي تركّز على المجازر والمأساة الإنسانية، بحسب طه الذي يلفت إلى دير يحمل اسم القدّيس هيلاريون أو هيلاريوس، الذي أسّس الرهبنة في فلسطين كلّها خلال القرن الرابع الميلادي، حيث تعرّض الموقع في دير البلح إلى تدمير جزئي.

وبيّن أنّ استهداف دور العبادة طاول أكثر من تسعين مسجداً، من أبرزها المسجد العمري (المسجد الكبير) في جباليا، وهو من أقدم جوامع فلسطين، حيث شُيّد في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، و"مسجد السيد هاشم" الذي يعود إلى العهد المملوكي، و"مسجد المحكمة" في حيّ الشجاعية الذي بُني أيام المماليك أيضاً وضمّ مدرسة منذ إنشائه، و"مسجد الأمين محمد" في خانيونس.

وتطرّق طه إلى التدمير الذي لحق "كنيسة برفيريوس" في حيّ الزيتون بمدينة غزّة، والتي تسمّت باسم القديس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، ودُفن فيها، وإلى جوارها في الحيّ ذاته دُمّر "مسجد كاتب ولاية" الذي شيّده المماليك في القرن الخامس عشر الميلادي، مشيراً إلى كونهما نموذجًا تاريخيًا لتعايش المسيحيين والمسلمين في غزّة.

أمّا مبنى ومتحف قصر الباشا في البلدة القديمة بمدينة غزّة، فقد بُني زمن الظاهر بيبرس خلال القرن الثالث عشر، وكان مقرّ حاكم المدينة طوال العصرين المملوكي والعثماني، وفق طه الذي نبّه إلى استهداف الاحتلال للمتاحف كما حصل في "متحف القرارة" في خانيونس وتدمير محتوياته التي تمثّل جميع الحضارات التي تعاقبت على غزّة وفلسطين، وكذلك "متحف رفح" الذي دُمّر بالكامل.

وتضاف إلى ذلك مبانٍ تاريخية تعرّضت للقصف الإسرائيلي مثل "بيت السقّا التاريخي" في حي الشجاعية الذي بُني قبل حوالي أربعمئة عام، والمستشفى المعمداني الذي تأسّس سنة 1882، ومبنى الأرشيف المركزي الذي يحتوي وثائق ومخطّطات مهمّة لغزّة في المئة عام الماضية، ومكتبة بلدية غزّة العامّة و"مركز رشاد الشوا الثقافي" و"متحف غزّة/ جودت الخضري" وكلية الحقوق في "جامعة الأزهر"، والعديد من المباني في شارع فهمي بيك وأحياء في البلدة القديمة بغزّة.

انتقل المحاضر إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظِّم وضع الآثار والتراث الثقافي تحت الاحتلال، والقرارات التي صدرت عن "يونسكو" وأدانت "إسرائيل" بصفتها قوّة احتلال لانتهاكاتها للميثاق المتعلّق بالمحافظة على الممتلكات الثقافية، منبّهاً إلى أنّ صوتها قد خفض خلال السنوات الأخيرة.

تدمير التراث الثقافي صنو الإبادة كما أوضح طه، باعتباره أداة لتدمير المجموعات البشرية بالرجوع إلى العديد من الشهادات والكتب التي وضعها العديد من الخبراء حول غزّة، داعياً إلى تقييم جميع الأضرار التي مسّت الآثار والمواقع التراثية ووضع خطط الإغاثة والإعمار.