الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة
جريدة الأيام نيوز / الجزائر
تتعرّضُ الذاكرة الفلسطينية إلى التّزوير والتّشويه بهدف ترسيخ الرّواية الصهيونية وطمس الرّواية الحقيقيّة للشعب الفلسطيني. ومن طُرُق مواجهة هذا العبث الصّهيوني، يسعى الفلسطينيون إلى تفعيل التاريخ الشفوي والوثائق العائلية.. وفي هذا السّياق، قامت الباحثة "سمر دويدار" بتأسيس "مُبادرة حكايات فلسطينية للأرشيف العائلي" من أجل توثيق الحياة العائلية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية للشعب الفلسطيني على أرضهم ما قبل عام 1967.
أطلقت الباحثة "سَمَر دويدار" مشروعَها خلال فعّاليّة أقامها فرعُ "الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية" في مصر، وذلك يوم السّبت 19 أوت 2023. وأوضحت الباحثةُ بأنها تعمل على نشر وتوثيق صندوق ذاكرة جدِّها "علي رشيد شعث" الذي يحتوي على أكثر من 350 وثيقة و600 صورة مُؤرَّخة بين عامي 1925 1966. كما أوضحتْ الباحثةُ بأنها تعمل على تجميع الوثائق والرواية الشفهية الفلسطينية من خلال منصّة رقمية يُسهم فيها الفلسطينيون أينما كانوا في هذا العالم.
تهدف "مُبادرة حكايات فلسطينية للأرشيف العائلي" إلى توثيق تاريخ فلسطين خلال الفترة ما (1948 - 1967) بكل ما فيها من مآسي الإبادة والتّدمير والتّهجير.. كما تهدف المبادرة إلى توثيق الحكايات داخل فلسطين وفي أوطان اللجوء الفلسطيني، وفي مختلف البلدان التي يتواجدُ فيها الفلسطينيون، في سباق مع الزّمن لتجميع ما أمكن من الحكايات قبل أن تُمحى هي أيْضًا برحيل من يحفظونها في أذهانهم، أو بموتها إذا بقيَتْ بعيدةً عن التّداول والاستثمار في المعارك اليومية ضدّ الكيان الصّهيوني الذي يعمل على إنتاج تاريخٍ مُزيّفٍ وهويّة أخرى غير الهويّة الأصلية والأصيلة لفلسطين والشّعب الفلسطيني.
عرضتْ الباحثة "سَمَر دويدار" وثائقَ وصُوَرًا كثيرةً يعود قسمٌ منها إلى ما قبل احتلال فلسطين سنة 1948. كما عرضتْ مراسلات جرتْ بين جدّها الفلسطيني وجدّتها اللبنانية، إضافة إلى مواد أرشيفيّة مُتنوّعة، وصُوَرٍ من الزمن الفلسطيني الجميل تُؤرّخُ لحياة النّاس في بعض القرى والمُدن الفلسطينية، لا سيما حياة الجَدِّ "علي رشيد شعث" الذي اشتغل في مجال التّعليم حيث كان مُديرًا لإحدى المدارس في مدينة "عَكَّا"، ثم انتقل إلى مدارس أخرى، وانتهى به الأمرُ إلى الهجرة نحو المدينة المصرية "الإسكندرية" في عام 1947.
تميّزتْ فعاليةُ "مُبادرة حكايات فلسطينية للأرشيف العائلي" بعرض شريط مُصَوَّر مؤثّرٍ جدًّا، تناول رسالةً كان قد بعثها الجَدُّ إلى زوجته - جدّةُ الباحثة - عندما عاد إلى فلسطين زائرًا في العام 1955 ورأى الصهاينة يمرحون ويسرحون في أرض أسْلافه، ووصَفَ شعورَ الخيبة والانكسار الذّي تملّكه، مِمَّا جعل الحاضرين في الفعَالية يعيشون النَّكبة مرة أخرى، ومنهم من غلبتْه الدّموعُ وغرق في البكاء.
أما بالنسبة لي، وأنا الفلسطينية التي أبصرتْ النّورَ في مخيّمات اللاجئين، فشعرتُ بالفقْد الكبير والحسرة على أوطاننا العربية المُتَّصلة جغرافيًّا ولغويًّا ودينيًّا.. لا يفصل بينها شيءٌ يمنعُ صوتُ القُدس وهي تنادي من فرْط أوجاعها وآلامها التي تُؤرّقها منذ أكثر من ثمانية عامًا.
"حكايات فلسطينية" جميلةٌ ومُوجِعة في الوقت نفسه، تأخذك إلى زمنٍ صار بعيدًا ولم تكن فيه.. وهي توجعُ كل فلسطينيّ في اللّجوء لم يعرف وجه بلاده، وهو يناجي ربّهُ منذ عقودٍ من أجل أن يرى ذلك الوجهَ.. وجه فلسطين العربية.
"مُبادرة حكايات فلسطينية للأرشيف العائلي" هي جهدٌ ثمين يُضاف إلى النضال الذي تقوم به النساء الفلسطينيات في مواجهة العدوِّ الصهيوني.. فالمرأة الفلسطينية لم تعش ظروفًا طبيعية ولا "تُتقن" كيف تكون أنثى المكان، فقد كانت دومًا أنثى الوطن المناضلة الشاهرة سيفها في وجه عدوها الذي يحاول دومًا أن ينفي تاريخها ويطمسه ويسرق منها جغرافيتها وذاكرتها.
إذا كان الجدُّ الفلسطيني "علي رشيد شعث" قد ترك لحفيدته بعضًا من ذاكرته ووثائقه وصوَره، فإنه على الفلسطينيين اليومَ أن يُعيدوا إحياءَ ماضيهم الموجود في الرواية الشفوية والصُّوَر والأرشيف العائلي وبعثِه في مثل هذه المبادرة التي أطلقتها الباحثة "سَمَر دويدار". كما يتوجّبُ يوثّقوا حاضرَهم فلا نعلم ماذا يُخبِّئ لنا الغد.. فقد يأتي يومٌ على أحفادنا ليعرضوا تاريخًا ورسائلَ وموّاد سمعية وبصريّة أورثناها لهم من زمن اللّجوء.. وما نتمنّاه حقًّا هو أن يعودوا إلى فلسطين يقيموا احتفالهم على أرضهم، بعد أن يكونوا قد طهّروها من الرِّجس الصهيوني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها