بعد أن اصطدم المشروع القومي وكذلك اليساري في الحائط، وأنغلقت أمامهما السبُل، في عالمنا

العربي، توقّع الكثيرون أن 'الاسلام' سيقوم بتعبئة الفراغ، وأن الذي سيقود حافلة الأُمّة هم الإسلاميون.

غير أن ثورات الربيع العربي، التي طالبت بالدولة المدنية، قد جعلت من الإسلاميين ركّاباً في الحافلة، ولم تكرّسهم سائقين لها أو متحكمين بها. ومع تفتّح الحياة الجديدة، في دول الربيع العربي، تونس ومصر، على سبيل المثال، نرى أن الحركات الإسلامية حاضرة بقوة، ولها مداخلاتها على غير صعيد، في ظلّ حراك ومخاض ونقاش واسع وعميق وشرس أحياناً، يسعى للحيلولة دون سيطرة الإسلاميين على دفّة الحُكْم.

وأعتقد أن الحركات الإسلامية ستواصل إخفاقها في تراكم خطواتها وفي الصعود إلى كرسي الحُكم، ما دامت منكفئة لا تعترف بمفردات اللحظة ومتطلباتها ، ولا تعترف بالآخر الوطني، وتسارع إلى تكفير أو إعدام مَنْ لا يؤمن بأفكارها، وتلجأ إلى وسائل غير حضارية وغير سلمية في التعاطي مع المختلف  أو لا تعترف له بخصوصيته، وتؤمن أنها وحدها تمتلك الحقيقة ومفاتيح الحياة ، وتنسج تحالفات تشوبها المصلحة أو تعاكس العقيدة. وليعلم الجميع أنهم أمام اختبار في مرحلة جديدة لها ما بعدها .

لهذا، أرجو أن أضع بعض الاستخلاصات، التي قد تصلح للنقاش، على طريق تأسيس ما هو مشترك بين الفرقاء، وهي:-

-1 ضرورة إيجاد فريق من العلماء والفقهاء واللغويين، ومن شتى التخصصات، للعمل على تحديث الخطاب الديني الإسلامي، وتجديد الاجتهاد وبعثه على ضوء متطلبات العصر ، دون أن نجرح النصّ أو نبالغ في التأويل. كما ندعو التيارات القومية واليسارية الى مراجعة عميقة وواعية لخطابها ، وللتمعّن في أزماتها ، ولتبيان أفضل الطرائق لتخطّي انكساراتها ، وللتعمّق في مسلّماتها الخائبة.

-2 إن المُناخ الوحيد الصالح للإسلام، ليجد آفاقاً يمتد فيها هو الدولة المدنيّة ، التي تقوم على المواطنة بكل مكوناتها وشروطها ، وعلى حق الاختلاف وممارسته.

- 3إن معالجة كل الحركات الناتئة فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً،  لا يمكن أن تتم بطرائق 'عنيفة' ، بل بنظرية العوامل المتعددة، والتي أهمها التعليم والفنون وإشاعة الوعي والعدالة وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان

-4 على القوى والأحزاب جميعها، أن تعرف وتعي وتمارس وتؤمن بأن لكل منها حقّاً، مثلما للآخرين، بعيداً عن الأحكام المُسبقة، أو المواقف الجاهزة، أو التماهي

مع بعض المطالب الإقليمية المشبوهة، ولا يحق لطرف، مهما كان مشربه وتوجهه الفكري أو العقدي ، أن يشيطن الآخر أو يحجر عليه أو يقصيه أو يعرقله أو يمنعه من حق يمارسه هو نفسه. ونؤكد على أن منع تيار وصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع من ممارسة حقّه، يعتبر دعوة مفتوحة للعنف والقمع ، ولا مبرر لصاحبها مهما كانت ذرائعه. وعلى بعض المفكرين ألاّ ينصّبوا أنفسهم أوصياء على الخلائق وأن يحترموا توجّهات الناس وخياراتهم .

-5 عدم تنميط القوى والاحزاب أو الافكار والعقائد ، والحذر من سحب النتائج  الجاهزة بشكل ميكانيكي على هذه الظاهرة أو تلك المجموعة .

والإسلام باعتباره ديناً سماوياً مؤثّراً وعظيماً، يحتاج منا إلى حوار موصول، لعلنا نجد على ما نصل إليه هدى، يساهم في تصحيح المفاهيم ، أو وضع الكوابح أمام بعض المواقف أو المصطلحات المنفلتة. وهذه بعض الأفكار التي قد تساعد في الحوار.

هل الدّين، وخاصة الإسلام شمولي؟ أم أيديولوجيا شمولية؟

لا ندّعى القطع في الإجابة التي سنحاول أن نقدمها، ومفادها أن الدين الإسلامي شاملٌ، بمعنى أنه أعطى إجابات لكل ما يحتاجه الانسان، أما الأيديولوجيا فإنها شمولية تدعي أن لديها جواباً لكل سؤال. 

وفي حين قال الدّين إن العقل محدود، قالت الأيديولوجيا إن العقل سيّد الوعي وغير محدود. كما أن الأيديولوجيا حسمت قولها، غالباً، بأنه لا خالق، وادّعت أنها تمتلك الحقيقة النهائية، إلا أن الدّين لم يجب عن الكثير مما يتعلق بالروح، وما وراؤها. والدّين تصالحي يعترف بالآخر، في الوقت الذي لا تعترف الأيديولوجيا بالآخر، بمعنى أن الأيديولوجيا ضديّة ونديّة، أي لا تلتقي أيديولوجيتان ولا تعترف الأولى بالثانية، في حين أن جذر الأديان السماوية واحد ولا ينكر دين ديناً، بمعنى أن الأديان تقوم على الاختلاف وليس على الصراع، من منطلق أن المصدر واحد وهو الله - سبحانه وتعالى-، فيما تعلّقت الأيديولوجيا بالأسئلة المادية والحياتية وقامت على نفي الميتافيزيقيا وما خلف الكون. إضافة إلى أن جذر رواية الأيديولوجيا متعدد، ومنطلقه الإنسان، عدا عن أن الأيديولوجيات تنهض على الصراع وبعضها يقوم على حد النفي .

ونرى أن الإسلام، مثلاً، مشغول باليهودية والمسيحية بشكل كبير جداً، فيما تنكر الأيديولوجيا مجرد قبول مناقشة الأخرى.

والدّين فكرٌ فيه مدىً مفتوح، بمعنى أن المتديّن حرّ ( باب الإجتهاد مفتوح)، أما الأيديولوجيا فهي دائرة كاملة، والأيديولوجي ليس حرّاً ( لديه إجابات جاهزة) .

وفي الدّين لا يوجد سياقٌ محدود وحاسم للتحوّل الاجتماعي، أي أن علم الاجتماع في الإسلام هو علم قراءة التحوّل وفهمه، وفي أحسن الأحوال توقّعه، وليس علماً لتحديد مسار التحوّل وحالته، أما في الأيديولوجيا فهناك سياق حتمي (المادية التاريخية مثلاً) .

عدا عن أن وعي البشر وسلوكهم ليس كيمياء كما تقاربه الأيديولوجيا، لأن علم الكيمياء هو علم علاقة العناصر المحددة، التي تقود إلى نتائج محددة ومعروفة سلفاً . 

وثمة فروقٌ أخرى بين الدّين والأيديولوجيا كالفرق بين التحوّل والتغيُّر، أو الفرق بين الحق والحقيقة .

إن فكرة الدّين أيديولوجيا ' أدلجة الدّين' هي عدائية استهدفت الإسلام، ووضعته في مصاف مُخرجات الإنسان، وكان ذلك يتزامن مع بزوغ الأيديولوجيات وتبلورها.

إن الدّين غريزة منذ الأزل، وثمة فرق بين الدّين كحاجة نفسية وسلوكية واجتماعية، وبين الدّين كفكر .

والدّين حقيقة تحولت إلى مقدّس. أما معظم الأفكار فهي معتقدات، في ظروف وسياقات مختلفة ومع الزمن،  تكتسب  قداستها .

والانسان، هذا الفرد الكائن الاجتماعي، هو منظومة، والمنظومة لا يجوز فصل أجزائها أو تعبيراتها عن بعضها، بمعنى لا يجوز فصل الفكري عن السياسي أو الاجتماعي عن الثقافي أو النفسي عن الاقتصادي وعياً وممارسة وعلاقات .. الخ، لأنك بهذا تفصل ما لا يُفصل . وبهذا فإن الفصل في منظومة الكائن، الكائن السماوي والكائن الأرضي، هو فصل تعسفي. والدّين الذي جاء ليحرر الأفراد من عبوديتهم لبعضهم البعض، ومنح الحرية التامة للإنسان في مواجهة ظلم أخيه، هو الذي حفظ كرامة البشر، وبالذات عندما اعتبر أن المطلق هو كلام الله عزّ وجلّ، وليس كلام القائد أو الزعيم أو الحاكم، وبدليل أن أكبر جهاد عند الله هو كلمة حق أمام هذا الظالم، وبدليل أن كل بني آدم يؤخذ منه ويُردّ عليه إلاّ النبي المعصوم . والدّين الإسلامي، وخاصة العقيدة والعبادات هي ثابتة، أما كل ما يتعلق ويخص الحياة فهو خاضع للإبداع والاجتهاد، ونرى ذلك من خلال الآيات التي دعت للتفكّر والتفكير (أنظر ما كتبه ابن رشد في تمجيد التفكير عند ردّه على الغزالي في التهافت، ومحاولاته في خلق حالة من الإنسحام بين العقل والنقل

ونشير إلى أن معظم الأفكار تبدأ، عادة، عقلية ثم تصبح حالة وجدانية، والتديُّن حالة وعي، ولا تديُّن بلا حالة وعي، لأن الوعي جوهر التعبير عن العقل، وكل عمل العقل هو الوعي، والعقل يحتوي المعرفة، ومن الناحية العلمية فهو يعيها، بمعنى أنني إذا وضعت 'النقل' على خط مستقيم مع 'العقل'، فإنني أحوّل العقل إلى مخزن، وهذا ليس من العقيدة الإسلامية في شيء، لأن العقيدة تقوم على وعي النقل/ المعرفة، وهذا إبداع بحد ذاته. وامتداداً لهذا فبإمكانك الحفر حول نظرية 'واجب الوجود' للفارابي، وكتاب 'التفكير' لتقي الدين النبهاني .

وثمة خصوصية لكل دّين، فالمسيحية في القرون الوسطى ليست هي الإسلام في أوج فتوحاته ودعوته للنماء والانفتاح والتقدم، مثلما أن المسيحية لا تشبه اليهودية في أي زمن كان .

ولا يجوز وضع 'الدّين' كلّه في سلة واحدة. وفي العودة إلى الإسلام فإنه أعلى درجات التحرر، لأن العبودية كانت مرتبطة بمركزين هما القوة والمال، لكنه حرّر البشر وأسقط قيمة المال وجبروت الإنسان المثيل، ومن هنا بدأت الحرية عندما سقطت مركزية الفرد الانسان.

واستناداً إلى ما أشرنا إليه آنفاً، فإنه من الطبيعي ألاّ يخجل المثقف من أن يكون 'متديّناً' ولكن الذي يبدو هو عكس ذلك . إذ بات الكثير من المثقفين يخجلون من التزيّي بالتديُّن، وراحت عقدة النقص هذه تتدحرج بين صفوف أهل الثقافة والفكر .

يبدو أن هذه العقدة جاءت من الهزيمة أمام الاستعمار وانبهار المثقف بالمستعمِر، ما أدى إلى هزيمة فكرية، بالتزامن مع سيطرة الصورة النمطية الاستشراقية عن المثقف، أدت إلى هذا الشعور بالتضاؤل والصَغَار. وقد بدأت هذه العقدة من الأمور الشكلية وانتهت بتقديس واعتماد النموذج الغربي .

وقد يكون الغرب مُحقّاً في نقد 'المتديَّن' لأسبابه، وهذا جزء من الأزمة في الثقافة الغربية، التي تعاني من عوامل داخلية تاريخية لها علاقة بانحراف الكنيسة في القرون الوسطى، وتعارضُها مع المنظومة الحياتية، أدّت إلى هذه الصورة القاتمة للمتدين. أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الحركات والجهات المعادية للعرب والمسلمين تقوم بتزويد المجتمعات الغربية بحمولةٍ ظالمة وسوداء مفبركة عن العرب والمسلمين، كما أن التقارب بين الكاثوليكية ومركز البروتستانتية، المُفضي إلى وحدة العهدين القديم والجديد، ساعد المناخ اللاهوتي الغربي في تدعيم اليهود والصهيونية، الذين يصدّرون صورة قاتمة عنا، كما يقول المفكرون، إضافة إلى أن قروناً من الصراع الصليبي الإسلامي ما زال مترسّباً في الغرب ويخلق نظرة سلبية ضدّنا ، وصورة إيجابية لصالح الصهيونية واليهودية، ويساعد في تعميق الصورة النمطية المقولبة ضدنا في الغرب.

وبظني، فإن السياسة الرسمية الغربية ما زالت تعادينا، وتعتبر 'اسرائيل'، خندقها الفكري والسياسي والعسكري، مقدّساً !

أما الموقف أو السياسات في المجتمع المدني الغربي، فقد بدأت تتغيَّر ببطء تدريجياً نحونا، لكنّ هذا التغيُّر، وفي ظل الترهيب  باسم معاداة الساميّة، ما زال يفتُّ في صورتنا ويظلمنا .

وهنا، علينا الإفادة، عرباً ومسلمين، من الفضاء الحرّ المَعيش في الغرب، وخصوصاً أن لديه متسعاً لما يُسمّى بالأسئلة اللامتناهية، على رأي بعض المفكرين، (اللامتناهي في الأسئلة والإجابات والنقد) قولاً وممارسةً. وأن أحد سلبيات إعلامنا أنه يتوجه لنا أكثر مما يخاطب الرأي العام الغربي، بهدف ترميم صورتنا وتقديم صورة تمحو الرُّهاب عن الإسلام (ألإسلاموفوبيا) في ظل سيطرة انتشار حرّاس الكذب، الذين يمرّرون مقولاتهم، في ظل الفوضى الخلاّقه والعولمة والاحتلالات، لتعميق صورتنا السوداء المغلوطة في الغرب، على الرُّغم من تشقق الجدار، الذي فصل ما بين ما كان يحدث عندنا من مذابح وفظاعات من قبل الاحتلال وقوى الاستكبار، وبين متلقيات الوعي والإعلام الغربي، ما أحدث تحوّلاً في الرأي العام الغربي، لكنه ما زال بطيئاً وضعيفاً جداً. لهذا بقيت الثقافة الغربية الجمعية ثقافة عنصرية تجاهنا، بسبب موضوعة الاستعمار. وبسبب الاستعمار كان لا بدّ للخطاب المستعمِر إلاّ أن يصفنا بالدونيّة وبأن ثقافتنا خرافات وخيالات، وهذا جزء من مرافعته لتوفير الأعذار والمبررات لما يقترفه ضدنا.

إن هذا مقياس عنصري ما زال متحكماً ومستمراً ورافضاً لنا (ما معنى رفض آوروبا لضم تركيا المسلمة، وكيف تتعامل آوروبا مع مسلمي البانيا ؟)، إن الثقافة الغربية ثقافة هيمنة وذرائع، لكنّ ديننا أنتج ثقافة مساواة وقبول للآخر وثقافة حوار وعدالة.

ويبدو أن البعض يريد أن يحكم المجتمع بثقافة غير ثقافته (حكم المجتمع خارج ثقافته) هل هذا معقول ؟

المعقول هو المطالبة بإنهاض وتحديث هذه الثقافة وليس اجتثاثها، لأن ذلك عين المستحيل. وربما يطيب للكثيرين القول بأنه لا توجد رسالة إنسانية في ثقافة الغرب، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، لأن الثقافة الغربية مكّنت الأقوياء فقط من فرض وعيهم وثقافتهم ومصالحهم (خمس دول يتحكمون في مجلس الأمن)، عدا عن تصاعُد النازية والفاشية الجديدة وجماعة كارل الثاني عشر، ما يدلل على أن الثقافة الغربية، منذ اليونانية، هي ثقافة السيّد الأبيض، وبظني أن الغرب لم يغادر هذه الثقافة حتى الآن، لأنها تعمّقت خلال ممارساته الفظيعه فيما اقترفه في العالم الجديد من فظاعات وإبادة (أنظر تزفيتان تودوروف ومنير العكش في كتابيهما فتح أمريكا وحق التضحية بالآخر)، عداك عن محاكم التفتيش وضحايا الحربين العالميتين .. الخ .

بينما نجد العقيدة الإسلامية التي لم ينشأ في حضنها أي ظاهرة فاشيه، قد أسقطت العرق واللون والجنس. والأَخطر من كل ذلك أن الغرب استبدل، في العصر الحديث، سيادة العدالة بسيادة القانون، لأن العدالة قانون عام، أما القانون فيتمّ وضعه تبعاً للمصالح ورؤية النظام. وأرى أن الإسلام قد أعلى العدالة باعتبارها  أساس الملك أي أساس الحكم.

والتديُّن طاقة روحية هائلة قادرة، في حالة استثارتها، على اجتراح معجزات عبقرية، وهي تلك الطاقة التي تحرّك الملايين في مواجهة جلاديها تاريخياً. هذه الطاقة هي أهم تجليات الوعي، الذي انسرب إلى الوجدان وتسربل فيه وخلق النسغ القادر على إحداث القشعريرة والانفعال.

والدين الإسلامي ثقافة للدنيا (الدين من الدنيا) وليس ثقافة للآخرة ( الإسلام يبعثك إلى الآخرة بشكل يجعلك مقبولاً )، أي أن الدين زمنٌ أرضي .

إن أي فكر أو دين أو عقيدة بالإمكان تأويله بشكل مغلوط، والذهاب به إلى القراءة الخطأ، ما يؤدي إلى التعصب والتطرف والظلامية، قولاً أو فعلاً، وهذا لا يقتصر على دين دون آخر .

وإذا  كان الدين عاملاً إرتكاسياً يؤدي إلى التخلّف وتمزيق الذات، فلماذا يُصرّ الغرب والحكام المصنوعون المكرّسون لخدمته على 'تنقية' المناهج والحياة من الدّين وتجفيف مصادره، على اعتدالها ؟

إننا نرفض ثقافة تصدير الخوف والإرهاب والتوصيف السلبي، كما أننا مع ثقافة النقد في مواجهة ثقافة الرفض . 

وتجدر الإشارة إلى أنه بالإمكان استخدام أي دين بكيفية مرعبة وخطيرة، مثلما يتم استخدام الثقافة أو الإعلام. وثمة غلبةٌ للتقاليد والعادات والقيم السائدة في الحياة، لكنه لا يجوز تحميل أوزارها للدّين، كما لا يجوز الدخول إلى نظرية أو فكر من خلال جزئية أو عبر تفصيل، بل عليك أخذ النظرية كاملة ثم ادخل إلى فروعها وتفاصيلها .

وبظني أنه تمت عملية تغييب للدّين الصحيح عمداً، مثلما تمّت عملية تشويه مقصودة للعقيدة، عبر إظهار تنظيمات متطرفة مجرمة تتزيّا بالدّين وتنطق باسمه، عدا عن أن الكثير من المنظّرين الإسلاميين ما زالوا يتعاطون مع الإسلام باعتباره ديناً شرق أوسطياً، ولم يبحثوا حتى اللحظة عن الآليات المطلوبة لتمريره كدين عالمي، مثلما دعا المفكر محمد شحرور في مؤلفاته، رغم ملاحظاتنا على بعض أفكاره .

ونؤكد أن ثمة أزمات (كبت اجتماعي، جهل، غياب للعدالة والمساواة) ونرى نتوءاتها في الحياة، وقد أسقطت ظلّها الثقيل على الدّين، ما جعل البعض يخلط، ظُلماً أو جهلاً، بين العادات والأزمات والدّين.

وأخيراً، ومع إقرارنا بأن ثمة فوبيا قديمة في الوعي الغربي من الإسلام بفعل الفهم المغلوط والاحتكاك بالعثمانيين والأندلس والحروب الصليبية، إلا أن الغرب، مُطالب بإمعان نظره في النص الإسلامي القابل للتأويل السليم والاجتهاد والخصوصية، باعتبار الإسلام فكراً إنسانياً تخطّى الجغرافيا والزمن، لما لديه من قدرة على التعاطي مع المتغيّر (أنظر الكتاب والقرآن).

ونستطيع أن نفهم أن ثمة فكراً حياتياً سائداً في الغرب، يتأتى من قراءة الظواهر، وتتوالد لديه منظومات فكرية، ولا يتعارض بالضرورة مع سعيه لفهم جاره على الضفة الأخرى . ويكفي أن أُشير إلى أن الغرب الذي يدعم دولة الاحتلال، التي يحكمها الحاخامات الرجعيون والعنصريون، لم يعرف أو لا يريد أن يفهم ما معنى أن يموت الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان في سجن الحاكم، وأن الإمام ابن حنبل قد سجن عامين ونصف وخُلعت كتفه، وأن الإمام الشافعي قد مات بعصيّ المتعصبين، ما يعني أن رؤوس الفقه الاسلامي وشيوخ عقيدة ديننا كانوا في مواجهة كل أشكال القمع والظلم وفي مواجهة الظلاميين، مستندين في ذلك على فَهْم عميق وحقيقي وحداثي للنصّ .

ولعلّي أتمنى على الذين يخجلون من دينهم أو يحاربونه ظلماً أو جهلاً، من أبناء جلدتنا، أن يعرفوا أن مبدعين كباراً من أسماء الأدب الغربي كانوا أقرب إلى المُبَشّرين، أو أنهم يظهرون تدّينهم، وأن الكثير الكثير مما تنتجه السينما الغربية هو أقرب إلى رسائل التبشير وتسويق المقولات المسيحية، وهذا من حقهم، ولم نَرَ نظرة دونيّة يرمقهم بها مثقفوهم كما يفعلُ البعض فينا، مع تأكيدي وإيماني واعتقادي وقولي بأن حق التديُّن مكفول، وحق اللاّ تديُّن مكفول، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكن دون أن يدّعي أحدٌ الحقيقة أو ينصّب نفسه حارساً لها .