لم يفاجأ أي مراقب لا سوداني ولا عربي ولا إسرائيلي بإعلان التطبيع المذل والرخيص بين جمهورية السودان ودولة الاستعمار الإسرائيلية يوم الجمعة الموافق 23 تشرين أول/ أكتوبر الحالي (2020)، كان الجميع ينتظر الإعلان الرسمي. لا سيما وأن رئيس المجلس السيادي، الفريق عبد الفتاح البرهان كان التقى رئيس حكومة إسرائيل في شباط/ فبراير الماضي (2020) في عنتيبي، عاصمة أوغندا. واتفقا على تلويث إسم وتاريخ وسجل السودان الوطني والقومي بقائمة المستسلمين من الحكام العرب.

وكنت ذكرت هنا في زاويتي أكثر من مرة ومنذ الكتابة عن مجرى تطورات ثورة كانون أول/ ديسمبر السودانية البطلة، أن دخول العسكر على مسار الثورة، لم يكن من باب الانتماء، ولا حرصًا على أهداف ومستقبل ثورة الشعب المنتفض على نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير، إنما بترتيب مسبق مع المتنفذين من أهل النظام الرسمي، وأسيادهم في البيت الأبيض وشارع بلفور. وأكدت أن البرهان وزمرته اختطفوا الثورة السودانية من قوى إعلان الحرية والتغيير، صاحبة الدور الريادي في قيادة كفاح الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية المسحوقة.

وأتيح لي التواصل مع عدد من الأشقاء السودانيين من قوى الثورة قبل الإعلان عن انتهاك رئيس المجلس السيادي الانتقالي لمبادئ وأهداف الثورة، والدوس على الوثيقة الدستورية، التي تم التوافق عليها بين القوى الوطنية وقوى الردة من مخلفات النظام السابق، وكانوا يدركون أن ألاعيب العسكر ستؤدي إلى جريمة التطبيع. لذا قاموا عن سابق تصميم وإصرار بدفع زمرتهم الفاسدة من رجال الأعمال، وقوى التخريب والاستسلام المتناثرة والقزمية داخل وخارج السودان لكي يروجوا لبضاعة التطبيع الفاسدة، أضف لذلك حاول العسكر تشتيت انتباه الشعب السوداني المثقل بالهموم والجوع والفقر وغياب الأمان والاستقرار، من خلال فتح معارك شتى في أرجاء السودان، ليتمكنوا من ترتيب السقوط في مستنقع التطبيع دون ضجيج، أو ردود فعل شعبية تليق بمكانة وثقل السودان العربي والأفريقي.

بيد أن الشعب السوداني البطل، حاضن قمة العرب صاحبة اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف ولا للمفاوضات بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 مباشرة، لا يمكن له أن يمرر هزيمة وجريمة التطبيع المذل. وكان شعب العطاء والحرية، الذي فجر ثورته في مواجهة النظام الإخواني الاستبدادي السابق، وقبل الإعلان عن فضيحة ولوج السودان متاهة العار الجديدة أحرق العلم الإسرائيلي، وأعلن قادته في 21 أكتوبر الحالي وهم يحيون ذكرى أم الثورات السودانية العظيمة عن رفضهم لأي علاقة مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، ورفضوا الربط بين رفع إسم السودان من قائمة الإرهاب وبين الانزلاق في صحراء الهزيمة القاحلة، التي يقودها حكام أقزام مقابل ثمن بخس، عنوانه وجودهم على كرسي الحكم.

ولم تنتظر قوى إعلان الحرية والتغيير طويلاً، فأصدروا بيانًا سياسيًا مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن التطبيع، أكدوا رفضهم لذلك، وأكدوا عن دعمهم لحقوق ومصالح الشعب العربي الفلسطيني، واعتبروا السلطة الانتقالية غير مخولة ولا مفوضة أبدًا بالموافقة على التطبيع، وطالبوا بالعودة للوثيقة الدستورية، التي تنظم العلاقة بينها وبين العسكر، ودعوا إلى تكوين المجلس التشريعي كجهة رقابية وتشريعية، وصاحبة الصلاحية في التقرير بالمسائل الخلافية، وطالبوا الشعب بالرد على استباحة المجلس السيادي لتاريخهم الوطني.

شعب السودان وقواه الحية صاحبة السجل الوطني والقومي، التي قدمت على مذبح ثورة ديسمبر العظيمة عشرات ومئات الشهداء والجرحى والمعتقلين، كفيلون بالرد على فضيحة العار الجديدة، وسيلاحقون كل العملاء والخونة ممن أداروا ظهرهم للوثيقة الدستورية، ولن يقبلوا المساومة على تاريخهم المجيد مقابل فتات بخس من الأموال المسمومة، لأن المطلوب من السودان أكبر من كل الأموال، مطلوب تمزيق وحدة السودان أكثر فأكثر، والسيطرة على منافذه وموانئه البحرية والجوية والبرية، وتحويله لجمهورية موز جديدة، أو لدويلات فاشلة كما جنوب السودان.

كل القوى الوطنية والقومية في الوطن العربي يتطلعون للشعب السوداني البطل وقواه الحية ليعيدوا الاعتبار لمجدهم وتاريخهم الناصع، وليدافعوا عن كرامة وعظمة الأمة العربية ويوقفوا عربة الانهيار والهزيمة، ويجددوا التأكيد على اللاءات الثلاث، ويكونوا بوابة التغيير الحقيقي في اللحظة التاريخية الراهنة. قد يتأخر الرد السوداني قليلاً، لكنه آت آت آت..