يؤوب الفلسطيني إلى مهبط روحه، بالكلمة أو الريشة أو الإزميل، وبالجسد حين يتاح له.. وفي كل الأحوال، يبقى الوطن معششًا في مسام روحه، فيحمله أينما ارتحل.. والفنان التشكيلي العكاوي، توفيق عبد العال لا يشذّ عن القاعدة. فحين تفتقت موهبة إبداعه الفني، لم تكن سوى عكا، فضاء إلهامه، ومن امتداد ومعانقة زرقة بحرها وسمائها وخضرة أرضها، استعار ألوان المرحلة الأولى من إبداعه.
تلقيتُ دعوة، غمرتني بفرح رطب، مشبع بعبق الأرض الطيبة. واستحضرتُ صورة الفنان توفيق، بكامل أناقته وعنفوانه، حين يحكي عن مدينته، كما عاشها. وتأثره حين يشرح لك عن بعض لوحاته، فيسترجع أحزان ذاكرته.. كانت الدعوة لحضور معرض لرسومات الفنان، في أرض الوطن. تحت عنوان "ترانيم البقاء"، في متحف جامعة بيرزيت. رحل العكاوي، قبل أن يشهد ولو عودة مجتزأة، تسمى ظلمًا، واعتسافًا على التاريخ "زيارة"، ولطالما، كان دائم الرفض لتلك الفكرة.
لوحاته، كسّرت الحدود واجتازت الأسلاك والأشواك، التي نبتت في الطريق إلى الوطن، لتكون شاهدًا على عشق الفنان المغترب عن وطنه قسرًا، عشق يمتد إلى ما بعد الموت، ويواصل النمو والزحف نحو موطن الأزرق والأخضر..
في مدينته عكا، وفي التاسعة من عمره، أقام توفيق عبد العال، أول معرض للوحاته، بتشجيع من أستاذه جورج فاخوري، وبعدها بسنة، حمله الرحيل إلى لبنان. اختزنت ذاكرة ومخيلة الطفل ابن العاشرة من عمره، صور مدينته بسورها، وأزقتها وحماماتها، ومقاهيها، وطبيعتها، التي أثرت عوالمه الفنية، من ألوان ومنحوتات..
تنوعت لوحاته، ما بين الأبيض والأسود، وتنوعت موضوعاتها، التي تدور في فضاء الغربة والحنين والانتفاض على واقع ظالم، وللمرأة مكانتها في عالمه الفنيّ.
ولحصان الفنان، الذي صار أيقونة انطلاقة ومسيرة الثورة، ميزات تفرّدت بها ريشته. طول في الساقين يحطم قيود الذل، وامتداد في العنق، ورأس شامخ يشرئب صوب السماء.
تآخى الإزميل والريشة، في عالم الفنان. لوحاته تفاوتت في الأحجام، وكذلك منحوتاته. صداقتي مع الفنان كانت امتدادا لصداقة عائلتينا منذ الزمن العكيّ.. أهداني لوحة تحمل عنوان "ربيع عكا". بألوان خضرة المدينة وشمسها الذهبية، ألوان زاهية، تعكس مرحلة طفولة سعيدة، قبل التمدد في طريق جلجلة طالت كثيرا.
راقتني لوحة، من زمن الألوان الداكنة، الزيتي والأزرق المعتم.. أردت شراءها، وأنا أدرك تماما، سيقدمها لي هدية، كان عليّ التحايل لامتلاكها، ادّعيت أن أحدا ما يريد شراء لوحة، وعليّ اختيارها. وهكذا نجوت بكذبتي البيضاء. اللوحتان الكبيرتان، علقتا وسط جدار غرفة الاستقبال العريض. حين حضر لزيارتنا، أخفيت اللوحة. وبعد حين من تأمله الحائط واللوحة المهداة، هزّ برأسه نظر إليّ وقال: اللي صار صار، أعيدي اللوحة مكانها!
خلفية اللوحة، حملت عنوانين لها، النورس العائد.. وأحلام الصياد.. الأول يحمل تفاؤلا رغم قتامة الألوان. والثاني فيه انهيار للحلم. في لقاء مع ابنه طارق، أخبرني أن هناك لوحة أخرى، تحمل عنوان "النورس العائد"، ما يعني أن العنوان الثاني هو المقصود.
أربعون عامًا في رحلة الإبداع، قضاها توفيق عبد العال، مسكونا بعشق خرافي، لم يثنه ما مرت به لوحاته من كوارث، تماثل كوارث وطنه. من ضياع بعض معروضاته، واستشهاد بعضها خلال الحرب اللبنانية، ولم ينجُ بعضها الآخر، من محارق الاجتياح عام 1982.
وتكتمل كارثة الفنان، باعتداء وحشيّ، من أفراد إحدى المليشيات، أدى تكسير نظارته، إلى فقد بصره. فعرفت ريشته وإزميله، معنى اليتم. انزوت الريشة في أحد الأدراج، تحلم بالألوان، واستكان الإزميل بغباره إلى جانبها، متحسرًا على يوم، كان يلاعب الخشب فيحيله إلى قطعة فنية. وصاحبهما العاشق، لم يعدم الوسائل لنشر حكاية عشقه.. فكتب وأبدع في الشعر والخواطر الشعرية، حتى آخر أيامه.
حفظ الطريق من بيته في حارة حريك، إلى مقهى "القسيس"، المعروف "بقهوة العكاكوي"، ليزداد التحامًا مع ناسه. من باب العرفان بالجميل، نذكر ذلك الشاب اللبناني من آل بعجور، الذي ظل يرافقه، في الطريق، كنوع من الحماية!
كتب د. فيصل دراج عن الفنان، الذي عرفه شخصيًا، تحت عنوان "تماثل الفن بالحياة": عالم توفيق يكسر الحدود ويمضي في مملكة اللون، فيصبح اللون إشارة الى زمن، وإشارة إلى عالم، ثم تتداخل الألوان، وتتسع العوالم، فيرى قارئ اللوحة جموح الفنان وطرقه المتعددة، التي تمضي إلى البحر والصورة والإنسان"..
لتسترح روحك في ملكوتها أيها الفنان، فقد أدّيت اليوم رسالة عشق يواصل النمو.. فلسطين ترحب بعودتك.