يعرفُ من ابتُليَ بمرضٍ مزمنٍ كيفَ تتحوّلُ حياتُهُ إلى مزيجٍ من المعاناةِ والقلقِ، ولعلَّ واحدًا من أهمِّ أسبابِ هذا الإحساسِ هو عدمُ الاطمئنانِ إلى الغدِ إضافةً إلى ما يتسبّبُ بهِ المرضُ من أعباءٍ نفسيّةٍ وحياتيّةٍ تشلُّ قدرةَ الأسرةِ على ممارسةِ الحياةِ الطّبيعيّة. يعلمُ ذلكَ كلُّ من مرَّ بتجربةِ مرضِ السّرطانِ مثلاً، سواءً إنْ كان المرضُ قد أصابَهُ هو أمْ أنَّ الضحيّةَ كانت واحدًا من الأقرباءِ أو الأصدقاءِ. في المقابلِ فإنَّ التقدّمَ الهائلَ والمتسارِعِ في كلِّ مجالاتِ العلومِ بما فيها الطبُّ قد أدّى خلالَ سنواتٍ قليلةٍ نسبيًّا إلى إيجادِ علاجٍ ناجعٍ لأمراضٍ كانتْ حتى الماضي القريبِ تشبهُ الحُكْمَ بالموتِ، وأهمُّ ما أنجزهُ الطبُّ في هذا المجالِ شيئان: الأولُ هو اختراعُ اللقاحاتِ ضدَّ الأمراضِ المُعديةِ مما أدّى إلى الحدِّ من انتشارها، بل وإلى القضاءِ على بعضِها نهائيًّا كمرضِ الجدريِّ الذي تخلّصت منه البشريةُ قبلَ أربعين عامًا. أمّا الثّاني فهو تطوّرُ عِلمِ زراعةِ الأعضاءِ واستخدامُ هذا النّوعِ من العلاجِ على نطاقٍ واسعٍ، مع ما يرافقُهُ من عنايةٍ مستمرّةٍ بعدَ الزّراعةِ تكفلُ للمريضِ التمتّعَ بحياتِهِ بشكلٍ طبيعيّ، مع إدراكِنا أنَّ هذا العلاجَ ما زالَ عاليَ التكلفةِ إضافةً إلى أنَّ إجراءَ عمليّاتِ الزراعةِ يحتاجُ إلى مراكزَ طبيّةٍ متخصّصةٍ تتوفّرُ فيها كلُّ الإمكانياتِ وأوّلُها الطاقَمُ الطبيُّ ذو الخبرةِ والكفاءةِ العالية.

 

جرتْ أولُّ عمليةٍ ناجحةٍ لزراعةِ القلبِ عام ١٩٦٧، وسبقَت ذلكَ بقليلٍ عمليّاتٌ لزراعةِ الكبدِ والكلى، ثمّ اتّسعَ نطاقُ الأمراضِ التي يمكنُ التّغلّبُ عليها بالزراعةِ ليشملَ الرئتينِ إلى أن وصلَ أخيرًا إلى زراعةِ الوجهِ بكلِّ ما فيهِ من أوعيةٍ دمويّةٍ وأعصابٍ وعضلاتٍ تحدّدُ ملامحَ الإنسانِ وتقترِنُ بشخصيّتهِ. ويمكنُ القولُ أنَّ علاجَ الأمراضِ المُرتبطةِ بفشلِ الأعضاءِ الضروريّةِ للحياةِ قد ساهمَ في إنقاذِ حياةِ الملايينِ من الأرواحِ البشريّةِ، ويكفي للتدليلِ على ذلكَ أن نشيرَ إلى أنّ عددَ عملياتِ زراعةِ الكلى لوحدِها يصلُ على مستوى العالَمِ إلى أكثرَ من ٨٠ ألف عمليةٍ سنويًّا. نستطيعُ القولَ إذن أنَّ الطبَّ قادرٌ على استخدامِ هذا النوعِ من العلاجِ بمهنيّةٍ عاليةٍ، لكنّ هذا لا يعني أنَّ مسألةَ زراعةِ الأعضاءِ لا تواجهُ عقباتٍ أخرى ما زالَت هناكَ حاجةٌ لتعاونِ المختصّينَ في مجالاتٍ متعدّدةٍ حتى يتمَّ التغلُّبُ عليها، وأهمّ هذه العقباتِ هو الوازعُ الأخلاقيُّ والثّقافيُّ والدينيُّ.

 

لقد حسمتْ المرجعياتُ الدينيّةُ لمختلفِ الأديانِ مسألةَ توافقِ زراعةِ الأعضاءِ مع تعاليمِ تلكَ الأديانِ وشجّعت المؤمنينَ على التبرّعِ بأعضائهم، بل جعلتْ ذلكَ جزءًا من شروطِ الإيمانِ الصحيحِ لا يقلُّ أهميّةً عن إنقاذِ النّفْسِ البشريّةِ التي يأمُرُنا بها الخالقُ في مواضِعَ أخرى ويُقدُّمُ واجبَ القيامِ بها على ما دونِهِ من الواجباتِ والعبادات. وعلى الرّغمِ من ذلكَ ما زالت بعضُ المعتقداتِ الخاطئةِ تعيقُ انتشارَ ثقافةِ التبرّعِ بالأعضاءِ، وهنا لا بدَّ من التأكيدِ أنَّ زراعةَ القلبِ أو الكِليةِ لا تختلفُ من الناحيةِ "الأخلاقيّةِ" أو "الرّوحيّةِ" عن عملياتِ نقْلِ الدّمِ التي تجري بشكلٍ يوميٍّ دونَ أنْ يتوقّفَ أحدٌ -والحمدُ للهِ- عندَ "الموانِعِ" الأخلاقيةِ لاستخدامِ هذا العلاجِ الوحيدِ من نوعِهِ. أمّا الجانبُ الآخرُ فهو الاعتقادُ الخاطئُ بأنَّ التّبرّعَ بأحدِ الاعضاءِ يمكنُ أنْ ينتقصَ من حرمةِ الميِّتِ، لأنَّ الحقيقةَ عكسُ ذلكَ تمامًا، ويكفي أن نتذكّرَ أنَّ مصطَلَحَ "زراعةِ الأعضاءِ" يعني أنّ المُتبرّعَ أو عائلتَهُ، مثلُهم مثلُ من يزرعُ بذرةً صالحةً تنبتُ منها شجرةُ الحياةِ وتستمرُّ في العطاءِ، وفي هذا امتدادٌ لحياةِ المَيْتِ في جسدٍ آخرَ، علاوةً على الشعورِ بالفخرِ وسمُوِّ الأخلاقِ نتيجةَ إنقاذِ حياةِ إنسانٍ ورسمِ الابتسامةِ على وجوهِ محبّيه.

 

نحنُ شعبٌ يؤمنُ باللهِ، ويُدرِكُ كذلكَ أنَّ معركتَهُ معَ الاحتلالِ الاستيطانيِّ معركةٌ طويلةٌ لا يبخلُ خلالَها أبناءُ شعبِنا بتقديمِ أرواحِهم من أجلِ كرامةِ وطنِهم وحرّيِته، ولأنَّ لنا أرضًا "عليها ما يستحقُّ الحياةَ" لا بدَّ من تعزيزِ ثقافةِ التّبرّعِ بالأعضاءِ وتعميمِها، فالردُّ على استشهادِ مقاومٍ يكونُ بسَلْبِ العدوِّ فرحتَهُ من القْتلِ بالتبّرعِ بأعضاءِ من نفقدُهم لتساعدَ على إنقاذِ حياةِ غيرِهم، وهذا ينطبقُ على ضحايا حوادثِ السّيرِ وغيرِها، ويكفي أن تقابِلَ أمُّ الشّهيدِ أو الضحيّةِ إنسانًا يتمتّعُ بنعمةِ العافيةِ وهي تعلمُ أنَّ في صدرِهِ قلبًا يدقُّ هو قلبُ ابنِها، وبذلكَ يكونُ الشّهيدُ حيًّا يُرزقُ عندَ ربّهِ، وحيًّا يُرزَقُ في جسَدِ إنسانٍ آخر.

 

*(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

 

٢٥-١٠-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان