شهدَت النّمسا يومَ الأحدِ الموافق ٢٩-٩-٢٠١٩ انتخاباتٍ برلمانيّةً مُبكِّرةً بعدَ أنْ سحبَ البرلمانُ الثّقةَ من الحكومةِ في أوّلِ سابقةٍ بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانية. وكانَ سَحبُ الثّقةِ تتويجًا للأزمةِ التي عصَفتْ بالحكومةِ الإئتلافيّةِ برئاسةِ المستشارِ سيباستيان كورتز والتي كانت تضمُّ حزبَ الشّعبِ النمساويّ -وهو حزبٌ ديمقراطيٌّ مسيحيٌّ، وحزبَ الحريّةِ النّمساوي اليمينيَّ القوميَّ المتطرّفَ والذي اكتسبَ شعبيتَهُ بعدَ أزمةِ اللاجئينَ التي عصفتْ بأوروبا عام ٢٠١٥ حيثُ كانت النّمسا واحدةً من الدّولِ التي شكّلتْ هدفًا للهاربين من جحيمِ الحربِ في سوريا وغيرِها من ضحايا "الرّبيعِ العربيّ". وحتّى تتضحَ الصّورةُ أكثرَ نشيرُ بعجالةٍ إلى طبيعةِ الفضيحةِ التي أدّت إلى انهيارِ الحكومةِ وتنظيمِ انتخاباتٍ مبّكرةٍ. ففي أيار/مايو الماضي، وقبلَ أسبوعٍ من انتخاباتِ البرلمانِ الأوروبيِّ، تمَّ الكَشفُ عن تسجيلٍ لحديثٍ دارَ بين رئيسِ حزبِ الحريّةِ اليمينيِّ هاينز-كريستيان شتراخه الذي كانَ نائبًا للمستشارِ، وبينَ صحفيّةٍ انتَحلتْ شخصيّةَ إبنةِ شقيقِ مليونيرٍ روسيٍّ مقرَّبٍ من الكرملين، ووعَدها المسؤولُ اليمينيُّ بفتحِ النمسا أمامَ استثماراتِ "عمِّها" إنْ هو اشترى جريدةَ Kronen Zeitung وسخّرَها لدعمِ حزبِهِ -حزبِ الحُريّةِ النّمساويِّ في انتخاباتِ البرلمانِ الأوروبيِّ. للتّذكيرِ فقط: هذه الفضيحةُ هي واحدةٌ من شواهدَ عديدةٍ تكشفُ عن العلاقةِ التي تربطُ روسيا بأحزابِ اليمينِ القوميِّ المتطرّفِ في أوروبا، وهي علاقةٌ تستغلّها روسيا لإضعافِ الاتحادِ الأوروبيِّ وتشجيعِ النّزعةِ القوميّةِ في دُولِهِ على حسابِ السياسةِ الساعيةِ إلى مزيدٍ من التكاملِ والتعاونِ وتوحيدِ المواقفِ ضمنَ مؤسّساتِ الاتّحاد.
لقد جاءتْ نتائجُ الانتخاباتِ الأخيرةِ لتشكّلَ منعطفًا في السياسةِ الدّاخليةِ للنمسا بما لها من دورٍ محوريٍّ على مستوى أوروبّا وفي السياسةِ الدولية. فقد حقّقَ حزبُ المستشارِ كورتز نجاحًا فاقَ كلَّ استطلاعاتِ الرّأيِ التي سبقت الانتخاباتِ، وحصلَ على نحو ٣٨٪ من الأصواتِ، بينما تراجع حزبُ الحرّيةِ اليمينيُّ ولم يحصلْ سوى على نحو ١٦٪، وهي هزيمةٌ حقيقيّةٌ لهذا الحزبِ وما يمثّلهُ من تهديدٍ لوحدةِ الاتحادِ الأوروبيِّ، وما يشكّلهُ من خطرٍ على السّلمِ الأهليِّ في النّمسا من خلالِ انتهاجِهِ سياسةً عنصريّةً ضدَّ اللاجئينَ والأجانبِ بشكلٍ عامٍّ، وللمقارنةِ فإنَّ هذه النتيجةَ تقلُّ بعشرةٍ بالمئةِ عمّا حصلَ عليهِ حزبُ الحريّةِ في انتخاباتِ ٢٠١٧. لا بدَّ من الإشارةِ إلى النّتيجةِ المتدنيّةِ التي حقّقها الحزبُ الاشتراكيُّ الديمقراطيُّ (للتّذكير: هذا حزبُ المستشارِ الأسْبقِ برونو كرايسكي، صديقِ أبو عمّار وفلسطين) وهو الحزبُ الذي حكمَ النّمسا معظمَ الفترةِ التي أعقبت الحربَ العالميّةَ الثانيةَ، فقد حصلَ على٢٢٪ من الأصواتِ وهي أسوأُ نتيجةٍ يحقّقُها منذُ تأسيسِه. في المقابلِ فقد رسّخَ حزبُ الخُضر مكانتَهُ بحصولِهِ على ما يزيدُ قليلاً عن ١٣٪ من أصواتِ النّاخبينَ، وهو حزبٌ كبقيّةِ أحزابِ الخُضرِ منفتِحٌ على التّعاونِ معَ فلسطينَ، وتأتي النتيجةُ التي حصلَ عليها الخُضرُ النّمساويّونَ تأكيدًا على النجاحاتِ التي حقّقتها أحزابُ الخُضر في معظمِ دولِ الاتّحادِ الأوروبيِّ في انتخاباتِ البرلمانِ الأوروبيِّ في أيار/مايو الماضي، وهي نتيجةٌ طبيعيّةٌ تعكِسُ تنامي الوعيِ بالمخاطرِ التي تتهدّدُ البيئةَ والمناخَ وتُفاقِمُ من خطرِ التلوّثِ والاحتباسِ الحراريِّ وما يجرّهُ من كوارث.
يجبُ النّظرُ إلى الانتخاباتِ النّمساويّةِ الأخيرةِ كبارقةِ أملٍ في طريقِ تعزيزِ مكانةِ الأحزابِ الديمقراطيّةِ في أوروبا كلّها، وكخطوةٍ أولى نحوَ تراجُعِ اليمينِ القوميِّ المعادي للآخرِ والمُصرِّ على ترسيخِ الانعزاليّةِ والتّقوقُعِ داخلَ الدّولةِ القوميّةِ "النّقيةِ" عرقيًّا ودينيًّا والخاليةِ منَ "الغُرباءِ". وليسَ الإهتمامُ بالإنتخاباتِ في دُولِ أوروبا نوعًا منَ التّرفِ، فأوروبا أوّلاً هي ساحةٌ مركزيّةٌ للصراعِ منْ أجلِ ترسيخِ عدالةِ نضالِ شعبِنا الفلسطينيِّ وفرْضِ الرّوايةِ الفلسطينيَّةِ كبديلٍ للأساطيرِ الصّهيونيّةِ التي تسيطِرُ على جزءٍ هامٍّ من الوعيِ الأوروبيِّ. وأوروبا ثانيًا هي ساحةٌ واسعةٌ لا حدودَ تفصلُ بينَ معظمِ دُولِها، يتزايدُ حجمُ التّواجدِ الفلسطينيِّ فيها يوماً بعدَ يومٍ، ويصلُ عددُ أبناءِ شعبِنا هنا إلى مئاتِ الآلافِ، وهُم ليسوا بمعزلٍ عن تأثيراتِ الحياةِ السياسيةِ والحزبيّةِ في الدولِ الأوروبيّةِ منفردةً، وفي الاتّحادِ الأوروبيِّ بشكلٍ عام.
*للنمسا دورٌ تاريخيٌّ في مسيرةِ النّضالِ الفلسطينيِّ، فقد كانتْ بوّابةَ دخولِ القضيّةِ الفلسطينيّةِ إلى السياسةِ الأوروبيّةِ، مثلما كانتْ فلسطينيًّا إحدى السّاحاتِ التي شاركتْ بتشكيلِ النّواةِ الأولى لحركةِ "فتح". لذلكَ نتمنّى لها السّلامةَ والاستقرارَ والتّقدّمَ في ظلِّ سيادةِ الديمقراطيّةِ والتّسامُحِ وتقبّلِ الآخرِ.
١-١٠-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها