خاص مجلّة القدس العدد 355| تقرير: نادرة سرحان
"في الحرب إمّا أن أموت أنا أو تموت أنتَ، هكذا هي المعادلة، فلا تتّسع الأرض لعدوَّين معًا"، هذا الكلام الذي يتّصف به مشهد سقوط تل الزعتر في الثاني عشر من شهر آب عام 1976 إبانَ الحرب الأهليّة اللبنانية. إبادةٌ جماعيّة نُفِّذت بحقِّ سكان المخيم، وأسفرت عن استشهاد ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني، فسقط المخيّم بعد أن كان قلعةً حصينةً أنهكها الحصار الذي اتسم بقطع الماء والطعام والكهرباء وحتى المستلزمات الطبيّة عنه لمدّةِ خمسة وخمسين يومًا.
لاجئة.. ولها من اسمها نصيب
عام 1948 وُلدت ابنة لعائلة أبو ضاهر الفلسطينية، هذه العائلة التي عاشت اللجوء كما كلّ العائلات الفلسطينية التي تشرَّدت بعد نكبة فلسطين. أراد والدها أن تحمل معها رسالة الشعب الفلسطيني وأن تبقى شاهدة على معاناته، فأسماها "لاجئة"، وهي الذي منذ ولادتها لم تعرف سوى اللجوء وآثاره التي تلاحقها خيارًا لها، فكان لها من اسمها نصيب.
لاجئة، اسم يدلُّ على نفسه، اكتنز داخله ذكريات حربٍ ضروس، لم تترك حتى للقطِّ ما يقتاته، راحت ضحيتها عائلتها، وفي ذكرى تلّ الزعتر، ها هي تجلس في مقبرة الشهداء في شاتيلا لتنظِّف قبور أهلها، وتقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء جميعهم، هذا الطقس الذي اعتادت ممارسته منذ أن سقط مخيّم تلّ الزعتر، وجاءت بها السبل إلى مخيّم شاتيلا التي تقطنه هي وشقيقتها حاليًّا.
تُخبرنا لاجئة عن تلّ الزعتر بعيونٍ دامعة، وكأنَّ المجزرة تحصل أمامها الآن، مُستذكرةً من استشهدوا، ومن فُقدوا ولم تعرف أخبارهم لغاية الآن.
تقول لاجئة: "لم تكن مجزرة تلّ الزعتر فجائية، فدائمًا ما كان المخيّم يتعرَّض لحروب داخليّة، واشتباكات متفرّقة، ويتقاتل فلان وفلان، إلّا أنّ الأمور كانت تُحَلّ ومن ثمّ يعود الوضع طبيعيًّا.
ولكن في نيسان عام 1976، كانت حافلة فلسطينية متجهة إلى تلّ الزعتر لإحياء ذكرى فلسطينية، فجرى إيقافها في عين الرمانة وإطلاق النار على جميع رُكّابها، اثنان فقط من استطاعا النجاة بنفسيهما لأنّهما مثّلّا بأنّهما استشهدا حتى لا تتم تصفيتهما".
وتُضيف لاجئة: "تراكمت الأحداث شيئًا فشيئًا إلى أن حُوصِر مخيَّم تلّ الزعتر، فكان حصارًا خانقًا، لم يملك أهالي المخيّم سلاحًا لمواجهته سوى الصبر والعزيمة. فقد استيقظنا صباحًا على صوت القذائف، واستمرَّ القصف على المخيّم ساعات متواصلة ولمدة أسبوعين، لم يستطع أيٌّ منّا التحرُّك أو الخروج من مكانه خلالها، الأمر الذي دفع أهالي المخيّم إلى تكسير جدران البيوت لصنع سراديب تفتح الطرقات فيما بينهم".
وتتابع: "تعاون الجميع فيما بينهم، فذهب البعض إلى المستشفيات للمساعدة في نقل الجرحى والشهداء وتقديم اللازم، وانصرفت النساء لطهو الطعام وإعداد الشطائر للفدائيين، لكنَّ الأمر ما لبث على حاله، حيث انقطع الطعام عن المخيّم وعاش أهالي المخيّم ظروفًا معيشيّة صعبة للغاية، ولم يكن أمامهم سوى معمل العدس في المخيّم، فأصبح العدس هو المكوِّن الأساسي لطعامهم، وأمسوا يصنعون منه المجدّرة والكبّة والشوربة وأيّ طعام آخر".
مشاهِد من أهوال المجزرة
بسؤال لاجئة عن ليلة سقوط تلّ الزعتر، وما حصل فيها بالتحديد، تجيب: "اتفقت الجهات المعنيّة على أن يخرج أهالي المخيّم إلى منطقة "الدكوانة" شرط ألّا يتعرَّض لهم أحد، أمّا الجرحى في المستشفيات، فسيأتي الصليب الأحمر لأماكن وجدهم ويأخذهم لتلقي العلاج، وعلى هذا الأساس وافق أهالي تلّ الزعتر، إلّا أنّهم تفاجأوا بالخديعة، حيث أُطلق النار على المجموعات التي خرجت ما أدى لاستشهادهم".
وتضيف لاجئة: "لقد تفنَّنوا في الدوس على جثث الشهداء والجرحى بكلِّ ما أوتوا من قوة، حتى أنَّ بعض الجرحى استشهدوا نتيجةً للتعذيب والدوس عليهم، هذا بالإضافة إلى ارتكابهم أفظع الجرائم من هتكٍ للأعراض، وبقرٍ لبطون الحوامل، وذبحٍ للأطفال والنساء والشيوخ".
تذهب لاجئة في ذاكرتها إلى تلك الليلة المشؤومة، فتخبرنا كيف كانوا يقتلون الجميع دون رأفة، وتروي لنا قصة أليمة حصلت حينها، فتقول:"كان هناك طفلٌ صغيرٌ يمسك بيدَِ أمّه المفجوعة التي تحاول حمايته في مكانٍ آمن، فجاء أحد المقاتلين وأخبرها بأنّه لن يسمح لها بالفرار مع طفلها لأنّه سيكبر يومًا ما ويحاربهم، فتعاون مع من معه ولووا رقبة الطفل وفسخوه أمام والدته".
كانت لاجئة في ذلك الوقت ممرِّضة مبتدئة في الهلال الأحمر الفلسطيني، تساعد في إسعاف الجرحى وتضميد الجروح في العديد من نقاط الإسعاف المنتشرة في المخيّم بسبب العدد الهائل للجرحى، ولكن المستلزمات الطبية لم تكن وقتها كافيةً للجميع، الأمر الذي استدعى لاجئة ومن معها لغلي الماء والملح لكي يعقّموا الجروح بدلاً من الـ"سبيرتو"، وصار الأطباء يخيطون جروح المصابين بلا تخدير لعدم توفّر الـ"بنج"، ويجمعون الشراشف البيضاء من أهالي المخيّم ليصنعوا منها ضماداتٍ للجروح.
وعن عدد الأشخاص الذين فقدتهم لاجئة في هذه المجزرة، تقول: "فقدتُ إخوتي الثلاثة الذين ذهبوا إلى الجبل ولم أعرف شيئًا عنهم منذ ذلك الوقت، وأخي الرابع مع زوجته وأولاده الخمسة الذين فُقدوا في تلّ الزعتر، هذا بالإضافة إلى ابن أختي وابنتها اللذين فقدناهما أيضًا ولا نعلم أين ذهبا".
بعد حصول الفاجعة، حاول الناجون من هذه المجزرة الهرب من المخيَّم والتسلُّل إلى منطقة آمنة، ومن بينهم لاجئة وشقيقها وابن عمّها المصابان ووالدها الذي كان طوال هذه المدّة مصابًا ويعيش داخل الملجأ. فحاولوا التسلُّل عن طريق الجبل ولكنَّ حركتهم اكتُشِفَت، فاختبأوا في نفقٍ طويل أوصلهم إلى نهر العبادية، ومن ثمّ تسلَّلوا إلى المنطقة التابعة لهم بعد أن عانوا من الطريق الشاق.
تنقّلت لاجئة ومن معها في أماكن متفرقة قبل أن يستقرَّ بها الأمر في مخيّم شاتيلا، حيثُ تعيش اليوم في بناء شُيِّدَ على أرضٍ تبرَّع بها الشهيد الرمز ياسر عرفات للـ"أونروا" وسعى جاهدًا من أجل إنشاء بيوت للناجين من مجزرة تلّ الزعتر.
وتختتم حديثها معنا وهي تُعدُّ كعك العيد، قائلةً: "اسمي لاجئة يليق تمامًا بحياتي التي عشتها وأنا ألجأ من مكان إلى آخر، هذا الاسم الذي أبى إلّا أن تكون حياتي لائقة بمعناه".
مخيّم تلّ الزعتر رمزٌ للتضحية والمقاومة والصمود في وجه المؤامرات، وتحتلّ المجزرة التي ارتُكِبَت فيه موقعًا خاصًّا في الذاكرة الفلسطينية التي لا تنساها كما المجازر الأخرى، فالمظلومون أصبحوا عند الله شهداء، أمّا المجرمون فلا يزالون بيننا، على أمل أن تقتصَّ منهم عدالة الحياة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها