في الرّابعِ من آب/أغسطس ١٩٢٩ وُلدِ ياسر عرفات، الفلسطينيُّ الكنعانيُّ الذي تَحوّلَ إلى أسطورةٍ اسمُها أبو عمار ليتبَوّأ في قلوبِ أبناءِ شعبِهِ مكانةً لا يُنازعُهُ عليْها أحدٌ، فهو القائدُ الذي جَمَعَ بينَ حِكمةِ الواقعي المُلِمِّ بتَضاريسِ حُقولِ الألغامِ المرافِقَةِ لِكلِّ خطوةٍ منْ خطواتِه، وبَينَ عُنفوانِ الفدائيِّ المُستَعِدّ لعَمَلِ المُستَحيلِ في سَبيلِ حِمايةِ الفِكْرةِ ورَدْعِ أعدائها. كنّا نُصْغي إليهِ وهوَ يخاطِبُنا فنَظُنُّ حيناً أنهُ فلاحٌ مِنْ إحدى قرى شَمالِ فلسطينَ، شاركَ في الثّورةِ الكبرى عام ١٩٣٦ وظلَّ متوشّحاً بكُوفيّتِها، ونُجزِمُ حيناً آخرَ أنّهُ لاجئ من مُخّيّمِ عين الحلوة وصلَ بهِ عِشْقُ فلسطينَ حَدَّ التّصَوّف.
كُنّا نَخشى عليهِ مِنْ حُبّنا لهُ، وهوَ بَطَلُ حكايَتِنا الذّاهبةِ كَكُلّ الأساطيرِ نَحوَ نهايةٍ لا يُتْقِنُ اختيارَها أحدٌ سوى أبطالِها. أقنَعْنا أنفُسَنا أنّهُ أكبرُ منْ حَتْميّةِ الغيابِ، لأنّهُ احْترَفَ رياضةَ التحايُلِ على المَوْتِ ولُعبةَ تَجريدِ الأعداءِ من نَشوةِ الاحتفالِ باختيارِ لَحْظةِ وطَريقةِ غيابِهِ.
عِشْنا في زمنِ ياسر عرفات. كنّا على يَقينٍ أنّنا لنْ نُهزَمَ ما دامَ بينَنا، وكانَ "الانتصارُ" في قامُوسِنا يَعني خُروجَهُ سالِماً بعدَ كلّ حِصارٍ أو غارةٍ أو شَرَكٍ يَنصبُهُ أعداؤهُ لهُ وللفكْرةِ التي قاتَلَ منً أجْلِها، فخُروجُهُ سالماً يَعني أنّنا لنْ نَضِلَّ الطريقَ إلى الوطَن.
كانَ أبو عمار ماهِراً في قَلْبِ الطّاولةِ في وجْهِ أعدائهِ، وكانَ قادِراً على التّمسّكِ بأصْعَبِ الخياراتِ ليُجْبِرَهُ على الانصياعِ لإرادتِهِ وخِدمةِ أسطورتِهِ التي نَسَجَ فصولَها بدقّةٍ متناهيةٍ، وصَنَعَ مِنها خَيمةً تُظلّلُنا وتَقينا شَرَّ العَواصفِ والأعْداء.
الأسطورةُ وحدَها هي التي تَستطيعُ الإجابةَ على الأسئلةِ التي تُحَيِّرُ كاتبَ التّاريخ:
- كيفَ كَسّرَ أبو عمار معادلةَ موازينِ القوى وقوانينَ حَرْبِ العصاباتِ واتّخذَ قرارَ المواجهةِ في معركةِ الكرامَة؟
- ما الذي مَكّنَهُ من الخُروجِ بقوّاتِهِ من حصارِ بيروتَ مرفوعةَ الرأسِ عالياً بعدَ أنْ ظنّ شارون أنّها سترفعُ الرايةَ البيضاءَ؟
- كيفَ شُقَّ البَحرَ ليُخرِجَ قوّاتهِ المحاصَرةَ في طرابلسَ دونَ أنْ يتنازلَ قيْدَ أنملةٍ عن القرارِ الوطنيّ المستقلّ؟
- مَنْ مِثلُهُ لَمْ يتردّدْ في مُفاوَضةِ عَدُوّهِ دونَ أنْ يَتوقّفَ عنْ مقاتَلتِهِ بينَ كلِّ جَوْلةِ مُفاوضاتٍ وأخرى؟
لقدْ أعطانا أبو عمار منْ خوابي أسطورتِهِ مؤونةً تكفينا في رحلةِ العودةِ منْ تَغْريبتِنا الطويلةِ. كانَ رَحيماً بِنا، رأيناهُ يَرحلُ رُويداً رُويداً، وكأنّهُ كانَ يريدُ أنْ يُجَنّبَنا وَجعَ غيابِهِ المفاجئ، لذلكَ أقْنَعَنا بابتسامَتِهِ التي أدْمَنّا عَليْها أنّهُ سَينامُ قليلاً ثمّ يَعودُ إليَنْا ليُمسِكَ بأيدينا واحِداً واحِداً كيْ نَعبُرَ المَمرَّ الفاصِلَ بينَ المنفى والوطَن.
يا كاتبَ التاريخِ سَجِّل: لقدْ عِشْنا في زَمنِ ياسر عرفات! كَمْ نَحْنُ مَحظُوظون! عَهْدُنا لهُ في ذكرى ميلادِهِ أنْ نَحْمِلَهُ يوماً على أكتافِنا ونَنقُلَهُ لينامَ إلى الأبَدِ تَحْتَ ظِلالِ شَجَرةِ زَيتونٍ بجوارِ المَسْجدِ الأقصى، رفيقِ طُفولتِهِ الأوّلِ ومَنارةِ رحلَتِهِ الأخيرة.
عِشْنا في زَمَنِ ياسر عرفات
05-08-2019
مشاهدة: 276
د.خليل نزّال
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها