في هذا الزّمن، حينما يشاهد المرء حيتان المال يسيطرون على الغذاء والماء والهواء ويبلعون ولا يشبعون، وحينما يرى في البيت الأبيض رجلاً متعجرفًا أحمق يوقّع على الوثائق بصورة دراماتيكيّة ويشهرها غير مصدّق نفسه، وحينما يرى شابًّا غرًّا مراهقًا سياسيًّا يحكم إمبراطورية النّفط ويرتكب الموبقات، وحينما يرى سانشو الفرد قد صار جوقة تهتف وتغنّي للسياسيّ الأجوف الدّجال، وحينما يرى آلاف الأطفال يموتون جوعًا ولا ضمير يتحرّك، وحينما يرى ملوكًا وسلاطين ورؤساء وأمراء يهرعون إلى سيّد شارع بلفور فلا بدّ أن يصلّي لله كي يبقى إنسانًا، فما أصعب أن يكون المرء إنسانًا. هذه مهمّة شاقّة.
كان الأميركيّ جون شتاينبك كاتبًا روائيًّا كبيرًا (جائزة نوبل 1962) وصف الطّبقات الشّعبيّة في موطنه في أعماله الأدبيّة إلّا أنّه – ويا للأسف – سقط عندما امتطى طائرة حربيّة بجوار ابنه الطّيّار ووصف أنامل نجله وهي تضغط على الأزرار وتطلق القذائف على المدن الفيتناميّة كأنها تعزف على بيانو.
مات شتاينبك الإنسان في تلك الطلعة اللعينة ولاحقته لعنة الأطفال الفيتناميّين أبد الدّهر.
وكان الإسرائيليّ بني موريس مؤرّخًا كبيرًا شجاعًا عندما قدّم للقرّاء في البلاد والعالم بحثه الشّهير عن نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيّين إلّا أنّه أصابته لوثة اليمين العنصريّ فاقترح في لقاء صحفيّ على حكومة إسرائيل أن "تسجن الفلسطينيّين في قفص" معترفًا أنّ "كلامه خطير وقاسٍ" ولكنّ "لا بدّ من ذلك لأنّهم حيوانات متوحّشة".
مات موريس الإنسان منذ ذلك اللقاء الصّحفيّ وخسر المؤرّخون الجدد مؤرّخًا هامًا، وبقينا نحن صامدين منغرسين في هذا الوطن الصّغير الجميل، ولم يتحقّق حلم المؤرّخ.
وأكاد في هذه الأيّام أتخيّل زفّة الإعلام الإسرائيليّ لو أنّ فلسطينيًّا وقف في ساحة المنارة في رام الله أو في ميدان ما من ميادين غزّة وتفاخر بعدد الإسرائيليّين أو اليهود الذين قتلهم. ماذا سيقول كبار القوم في هذه البلاد؟ وما نصّ بيان البيت الأبيض وبيان الاتّحاد الأوروبي؟ ولماذا يا عالم لم يستنكر الرّئيس الفلسطينيّ كلام ذلك الرّجل؟
وأمّا أن يتفاخر نائب إسرائيليّ في الكنيست بأنّه لا يوجد إسرائيليّ قد قتل عربًا أكثر منه...
وأمّا أن يصدر جنرال إسرائيليّ في شريط مصوّر إحصاءً بعدد ضحاياه من العرب في غزّة..فلا أحد يحتجّ ولا أحد يقول كلمة، ولا أحد يحاول أن ينعى الإنسان الذي مات في الجنرال. وقد يصبح هذا الجنرال رئيسًا للحكومة مثلما كان رابين وباراك وشارون.
ما أصعب أن يكون المرء إنسانًا في هذا الزّمان!
اللهم إني أصلّي لك كي أبقى إنسانًا إنسانًا إنسانًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها