افتتاحية العدد 347 من مجلة "القدس" لشهر ايار 2018
هل ستسهم هذه الانتفاضة الشعبية في توحيد الوطن أرضاً، وشعباً، ومقاومة؟
الذي لا شك فيه هو أن الانتفاضة الحالية هي التي حالت دون قيام العدو بعدوان جديد وتدمير أحياء قطاع غزة، وقتل وجرح الآلاف، بعد صدور العديد من التهديدات.
هذه الانتفاضة الشعبية المجسَّدة في مسيرات يوم العودة، جعلت الكيان الصهيوني مطلوباً للعدالة الدولية، وفي فقص الإتهام، فهو يقتل الاطفال، والنساء والشبان، فقط لأنه لا يستطيع رؤية أبناء شعبنا في قطاع غزة يحتشدون على أطراف غزة وجهاً لوجه مع جنود العدو، وقناصته المختصين بإعدام الاطفال، وبشلِّ أطرافهم، ولأنهم يريدون إحياء يوم الارض، والتمتع برؤية بلادهم المحتلة منذ سبعين عاماً.
العدو الصهيوني مصاب بالجنون والهستيريا كيف أنَّ هذه الحشود المدنية من كافة شرائح شعبنا، ومن كافة أطيافه الوطنية اجتمعوا على قلب رجل واحد، وأخذوا قرارهم الوطني والسياسي بتفعيل مقاومتهم الشعبية والسلمية بعيداً عن الصواريخ والرشاشات. سلاحهم الاقوى هو الوحدة الوطنية، والايمان بالله، والارادة الفلسطينية المعهودة، والراية الوحيدة التي ترفرف هي علمُ فلسطين الذي يُظلِّلُ كل أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل والشتات.
الأحتلال يعيش حالة ذهول لأن الشعب الفلسطيني شقّ طريقه بقوة، وفي حالة إستنفار دائم. صحيح أنه يقدم يومياً الشهداء والجرحى، لكنه لا يعرف التراجع، ولا التردد، وهو اليوم يؤكد قدرته على التلاحم مع قيادته السياسية لاستثمار كل هذه الانجازات المكتوبة بالدم الفلسطيني.
وتنتصب القيادة الفلسطينية اليوم عملاقةً في وسط الميدان الدولي، تتحدى الكيان الصهيوني النازي والعنصري، والقاتل للانسان الفلسطيني، وهي اليوم تضعه أمام العدالة الدولية مقيداً بالجرائم التي ارتكبها، وفي مقدمتها الإصرار على الإبادة البشرية، فهو مطلوب للجمعية العمومية التي أنصفت فلسطين، وعزلت الكيان الصهيوني. واليوم استطاعت القيادة الفلسطينية وبجهد سياسي مُنظَّم أن تحصل على قرار إدانة للكيان الصهيوني، وأن تشكل لجنة تقصِّي حقائق، وأيضاً لجنة تحقيق بجرائم القتل والقنص هناك على أطراف غزة، وهذه قضايا مهمة.
كما أنَّ ملف هذه الجرائم أصبح أيضاً على طاولة محكمة الجنايات الدولية.
إنَّ كافة المؤتمرات والقمم الاسلامية، والعربية، والافريقية، والبرلمانات الاوروبية أدانت واستنكرت الجرائم الصهيونية، وهذه الأمم أكدت انتماءها للقضية الفلسطينية، والحقوق الوطنية، وللقدس عاصمة فلسطين الأبدية.
هذه المسيرات الضخمة التي جرت في بعض البلدان الاسلامية، وفي دول العالم إستنكاراً لهذه الجرائم الصهيونية التي شرَّعها ليبرمان وزير العدوان الاسرائيلي عندما قال أنه (يجب قتل الفلسطينيين لأنه لا يوجد فلسطيني بريء).
اليوم أثبت قطاع غزة أنه ما زال على اصالته الوطنية، وأنه ليس مزرعةً لأحد، وأنه جزء لا يتجزأ من المشروع الوطني الفلسطيني، ومن القرار الوطني الفلسطيني.
إنتفاضة قطاع غزة بالزخم الوطني الفلسطيني المشارك يومياً منذ يوم الارض، وما يزال الحراك متواصلاً تحت اسم مسيرة العودة أكدت للكل الفلسطيني، وللكل العربي أيضاً بأنَّ القضية الفلسطينية هو جوهر الصراع ضد الاحتلال الصهيوني، وهو الذي يسعى إلى مدِّ نفوذه في العالم العربي تحت غطاء مباشر وغير مباشر، وهي فرصة العمر لهذا الكيان الغاصب الذي رفع شعاره المقدس، " حدودك يا إسرائيل من الفرات الى النيل"، ويأمل أنه بوجود الصهيوني الأول دونالد ترامب يستطيع أن يحقق هذه الأمنية، بعد أن تمَّ تمزيق الوطن العربي، وإضعافه، وإفقاده القدرة على أخذ القرار السياسي، والأمني، والإقتصادي.
لقد جاء ترامب المدعوم من أتباع الكنيسة الانجيلية الصهيونية، والذين يُقدر عددهم بستين مليوناً، والذين يؤمنون بان عودة المسيح عليه السلام إلى الارض يتوقف على عودة اليهود إلى ارض الميعاد ( التي هي أرض فلسطين الكنعانية تاريخياً)، وايضاً ضرورة الاسراع في بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى. جاء قرار ترامب رئيس الولايات المتحدة، والذي هو قرار صهيوني بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس – وهو القرار الذي لم يتجرأ أي رئيس أميركي قبله ان يأخذه حفاظاً على مصالح الولايات المتحدة، وعلاقاتها في المنطقة، وفي العالم – وبهذا القرار الجائر دمَّر ترامب كل ما له علاقة بعملية السلام، كما أنه أعطى الضوء الأخضر للكيان الصهيوني بالتسريع في مشروع السيطرة على القدس، واجراء التغييرات المطلوبة ديموغرافياً وسياسياً، واجتماعياً.
والاهم هو التنكيل بالشعب الفلسطيني، وتكثيف الاعدامات الميدانية، وتدمير الاحياء، والبيوت، واقامة الجدران العازلة، وترحيل وتهجير الأهالي، واستخدام العنف بكل أشكاله.
هذه التطورات الدراماتيكية، والفعَّالة لم يقف أمامها ميدانياً وعملياً سوى الشعب الفلسطيني. ونتيجة الضعف والتراجع في الموقف العربي ، أصبح مطلوباً من القيادة الفلسطينية أن تعلن حالة الاستنفار القصوى لمواجهة كافة المشاريع التصفوية من جهة، ولتصليب الجبهة الفلسطينية الداخلية من جهة أخرى.
وتصليب الجبهة الفلسطينية الداخلية لم يعد ذلك الشعار الخيالي، أو فاقد المضمون، أو المعجزة، لأسباب موضوعية بالامكان إستثمارها والبناء عليها، وصولاً إلى إنهاء الأنقسام، وبلورة المصالحة الفلسطينية ومن هذه الأسباب الوجيهة:
أولاً: هناك استهداف أميركي إسرائيلي صهيوني للقضية الفلسطينية، والقيادة الفلسطينية التي نجحت مؤخراً في عقد المجلس الوطني في دورته الثالثة والعشرين، وصلَّبت الشرعية الفلسطينية بوجه سهام الحقد والتآمر على القضية الفلسطينية وعلى طموحات الشعب الفلسطيني.
ثانياً: إنّ الوحدة الوطنية الميدانية التي تجسًّدت على جبهة غزة، وخاضت تجربةً جماعية ناجحة، أسهمت في تقريب المسافات ما بين الفصائل والقوى والمؤسسات الوطنية، وأثبتت أنه عندما يكون القرار وطنياً فلسطينياً نابعاً من مصالح شعبنا فإنه بالأمكان تجاوز كافة العقبات.
ثالثاً: إنَّ نزيف دماء الشهداء الذي ضمَّخ تراب قطاع غزة جعل العالم كلَّه متعاطفاً، مسانداً، وداعماً لحقوق الشعب الفلسطيني، ومنحازاً إلى القضية الفلسطينية في كل المحافل الدولية، وهذا ما وضع الولايات المتحدة في موقف مأزوم مع دول العالم.
رابعاً: إنَّ الوقفة الفلسطينية الثورية التي تجسَّدت في ذكرى النكبة، وخاصة مع نقل السفارة الأميركية إلى تل أبيب عنوةً، وتحدياً لوجدان ومشاعر الأمة العربية والاسلامية، وأحرار العالم، هذه الوقفة لأهلنا في أراضي الثمانية والأربعين، وفي القدس، وفي كل محافظات الضفة الغربية، وفي الشتات، كلهم كان يربطهم مع أهالي غزة وقيادتها الخط الدولي الساخن والمباشر من القلب إلى القلب ومن جبهة غزة الصامدة إلى القدس المنتفضة : لقد شيَّعنا الشهداء، وبلسمنا الجراح، ونحن نزداد إصراراً على مواصلة مسيرة العودة، وعشرات الآلاف من أبناء غزة يتدفقون باتجاه خطوط النار، يحملون الاعلام، حيثُ يقضُّون مضاجع الإحتلال، المرعوب من مشهد الاهالي الذين لا يملون من النظر إلى أرضهم المغتصبة. نظراتُ أطفالنا، وشبابنا، ونسائنا هي سهامٌ تحرقُ إرادة أولئك المجرمين القتلة فيرتعدون خوفاً، ويرتجفون ولا يجدون ملجأ لهم إلا الأختباء في تلك الدشم والتحصينات، وترجمة حالة الرعب العنصري والحقد على بني البشر من خلال تقنيص الأطفال
من جبهة القدس، ومن داخل الأقصى إليكم جميعا يا أهلنا في القطاع:
من أرض الرباط والقداسة، من أرض الانبياء، والاسراء والمعراج، نحييكم على وقفتكم الوطنية الجامعة، ونبارك لشهدائكم بالجنة، ولجرحاكم بالشفاء العاجل، بهذه الوقفة الفلسطينية الشجاعة، والتاريخية أسعدتم قلوبنا، وازدادت قناعتنا بأنَّ النصر قادم، وأنَّ شعبنا أقوى من المؤامرة، وأن القدس ستلفظ هذه السفارة اللقيطة المرفوضة من كل الشرفاء في العالم، لأنها إمتهان للكرامة الاسلامية والعربية، والمسيحية.
نحن على العهد سنبقى، تذكروا أنَّ في قدسنا أبطالٌ أشاوس، وأخواتٌ ما ماجدات، وفلسطين جسدٌ واحد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فالأهلُ فيها صنعوا الانتفاضات، وأطلقوا الهبات الشعبية، وهذه أرض الثورات، والبطولات، والشهداء.
وبكل اعتزاز، ورغم الجراح النازفة فإننا نؤكد حقيقة جوهرية وهي أنَّ حالة النهوض الوطني الفلسطيني، والإصرار على مقاومة الاحتلال صفاً واحداً، وأن يحكمنا قرار وطني واحد هو قرار م.ت.ف، هذا كله أوجد حالة تضامنية دولية مع القضية الفلسطينية، وأصبحت فلسطين وقدسها هي محور الصراع في المنطقة، خاصة أن هناك مواقف متقدمة معلنة من دول العالم تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وقيادته التي تقود هذه المرحلة بوعي وحكمة وأفق سياسي واضح. وهذا ما جعل مختلف القمم الاسلامية والعربية والدولية تساند الجانب الفلسطيني في مواقفه ورؤيته الواقعية فهي أيدت نضال الشعب الفلسطيني، وحقوقه المشروعة، والخطط السياسية المطروحة وخاصة المبادرة السياسية الفلسطينية التي طرحها الرئيس أبو مازن في مجلس الأمن، ودول العالم توافقت على هذه المبادرة بأنها الأساس لأي عملية سياسية،لأنها قائمة على قرارات الشرعية الدولية. واليوم أيدتها قمة اسطنبول الاسلامية، وقبلها أيدتها القمة العربية، والافريقية، والاتحاد الأوروبي، وهذه لطمة قوية لترامب ومشروعه الصهيوني.
وتبقى كلمة أخيرة ولكنها هي بيت القصيد، إنَّ العالم يلتف اليوم حول قضيتنا، وبرفض علناً مشروع ترامب بكل تفاصيله، ويدين نقل السفارة إلى القدس عاصمة دولة فلسطين، ويعتبر أن القدس هي مدينة مقدسة لدي الفلسطينيين والامة العربية والاسلامية، وأيضاً لدى المسيحين، وهناك مقاطعة واضحة لسياسات الولايات المتحدة. ولكن أمام هذا الوقع الإيجابي هل نحن كقوى فلسطينية، وفصائل فلسطينية بكل مسمياتنا قد حسمنا قرارنا السياسي في السر وفي العلن، وأمام الإغراءات الاميركية، وبعض المقاولين السياسيين العرب الذين يضغطون على الأطراف الفلسطينية سواء في الضفة أو في قطاع غزة ليكونوا جزءاً من مشروع ترامب، وخاصة الموافقة على فصل القطاع عن الضفة، وتكريس عملية الفصل تحت غطاء سياسي، أو أمني، أو اقتصادي. هل سيقبل أي طرف فلسطيني مقابل مكاسب حزبية ومالية أن يدخل في متاهة مشروع ترامب الذي أهم عناوينة تدمير القضية الفلسطينية، وتدمير حق العودة للاجئين الفلسطينين استناداً للقرار 194.
المرحلة خطيرة جداً، وشعبنا يمتلك مستوىً عالياً من الوعي والخبرة السياسية. ونستطيع القول بأن الحفاظ على مسيرة العودة فاعلة ومتفاعلة في قطاع غزة، وعدم الدخول في مشاريع إجهاضها، وارباكها، واحترام القيادات، والكادرات، والطواقم الإعلامية، والصحية، واللجان الانطباطية التي سهرت الليالي لتفويت الفرصة على كل من يكيد لشعبنا، ولوحدتنا الوطنية. استمرار مسيرة العودة التي باركها شعبنا، ودفع أبناءه شهداء، وجرحى لن يسمح بإطفاء جذوتها لأنَّ القدس وأقصاها، ومقدساتها، ومستقبل الصراع مع الاحتلال يستند إلى مسيرة العودة وأبطالها، وروادها. نحن في حركة فتح سندافع عن هذا الانجاز الكبير الذي جعل من خلال مقاومته الشعبية السلمية عنواناً وطنياً يشد كل دول العالم، ووسائله الإعلامية، ومؤسساته السياسية ليروا بأم العين حجمَ الجرائم وأشكال الارهاب الصهيوني التي يعاني منها الشعب الفلسطيني المحروم من حقوقه الوطنية، بسبب الهيمنة الاميركية الاسرائيلية الصهيونية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها