غادة أسعد/ لماذا تحظى انتخابات السلطات المحلية في الداخل الفلسطيني بكل هذا الاهتمام؟!! وما الذي دفع بفلسطينيي الداخل إلى المشاركة في التصويت الذي جرى يوم الثلاثاء في 22/10/2013، بحيثُ وصلت نسبة التصويت إلى نحو 90%؟!

هي تساؤلات مشروعة يتم طرحها في العادة بعد ظهور نتائج الانتخابات، التي تجري مرةً كل خمس سنوات، ويقوم المواطنون (فلسطينيون وإسرائيليون) في إسرائيل باختيار مرشَّحهم لرئاسة وعضوية السلطة المحلية، (مجالس في القرى) و(بلديات في المدن)، عبر الإدلاء بأصواتهم بصورة ديمقراطية. وفي يوم الانتخابات تُخصِّص إسرائيل ميزانية لمراقبة سير الانتخابات وتوفير رجال أمن وشرطة إسرائيليين مهمتهم الحفاظ على الهدوء وسيرورة الانتخابات، على غرار طريقة التصويت للانتخابات البرلمانية (الكنيست الإسرائيلي).

 

الحكم المحلي (السلطات المحلية العربية).

يُعتبَر الحكم المحلي جزءًا من الحكم المركزي في إسرائيل، وتسيطر على العلاقة بين الحُكمين حالة من تبعية الحكم المحلي للحكم المركزي، حيث إن النظام الإسرائيلي يتسم بمركزية كبيرة.

ويرى البعض أنّ تسمية السلطات المحلية حكمًا محليًا ليس صدفة وإذ يمكن تسميتها إدارات محلية، كما هو دارج مثلاً في كثير من الدول، لكن نظرًا إلى أنّ هذه السلطات يتم انتخابها من الجمهور ولا يتم تعيينها من الحكم المركزي، فإنّ ذلك يضفي عليها صفة الحكم وليس مجرد الإدارة.

وبالعودة للتاريخ، فقد كانت الانتخابات المحلية التي جرت سنة 1978 هي الأولى التي تمّت بحسب طريقة الانتخاب المباشر لرئيس السلطة المحلية، (بطاقة لرئاسة السلطة المحلية وبطاقة أخرى للعضوية)، وحتى ذلك الوقت أُجريت الانتخابات بحسب الطريقة القديمة، حيث كان يتم انتخاب رئيس السلطة المحلية من خلال التصويت بين أعضاء المجلس المنتخبين.

 

كيف تتجلى خدمات السلطات المحلية ؟!

يؤكِّد الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، "مدار" أنطـوان شلحـت، لمجلة "القدس" أنّ السلطات المحلية مسؤولة أساسًا عن تقديم الخدمات البلدية، وبالنسبة إلى المواطنين الفلسطينيين في الداخل فإنّ أهم هذه الخدمات كامن في التربية والتعليم، والرفاه الاجتماعي، وكل ما يرتبط بقضية المسكن والأرض، ولذا فإنّ السياسة تدخل كثيرًا في اعتبارات الانتخابات المحلية بالنسبة إليهم. ويلفت شلحت إلى أن الأحزاب الفلسطينية الوطنية تولي أهمية كبيرة لها كون السلطات المحلية بمثابة الواجهة التي تتصدَّر كفاح الفلسطينيين في الداخل من أجل تحسين خدمات التربية والتعليم بما تعنيه من الحفاظ على الهوية والشخصية الوطنية، ومن أجل حماية الأرض.

مع ذلك – يُضيف: "نلاحظ أن ثمة تطورًا جديدًا يؤسَف له يأخذ في التفاقم خلال السنوات الأخيرة وهو تراجع اهتمام الأحزاب الوطنية بالانتخابات المحلية، الأمر الذي أتاح المجال لبروز اختلاف بين اعتبارات التصويت في ساحة السياسة المحلية واعتبارات التصويت في ساحة السياسة القُطرية، في حين أن معركة الفلسطينيين في الداخل ما زالت تتطلب عدم وجود اختلاف كهذا".

وبناءً على ما ذكره الباحث أنطوان شلحت فإنّ العرب في الدولة يعتبرون الحكم المحلي العربي هيئة تمثِّلهم ويتماثلون معها ومع أهدافها، الأمر الذي يشجعهم على الانخراط السياسي الكبير على الصعيد المحلي، وهذا ما تظهره نتائج الإنتخابات وآخرها يوم 22 اكتوبر الماضي، حيثُ شاركَ 90% من الفلسطينيين في الانتخابات، مقابل 50% من الإسرائيليين الذين أدلوا بصوتهم، والاعتبارات مختلفة تمامًا بين الجانبين، كما أنّ الخدمات التي يحصل عليها الفلسطينيون (العرب الأصلانيون في البلاد)، لا تصل إلى مستوى الخدمات التي يحصل عليها الإسرائيليون (مواطنو الدولة)، الأمر الذي يؤكِّده الفارق في معدلات الفرق بين اليهود والعرب.

 

أعضاء الكنيست العرب والأحزاب..محرك فعال للانتخابات

تلتقي مهمة عضو البرلمان العربي في الكنيست الإسرائيلي، مع دعم مرشحي الرئاسة والعضوية في البلدات العربية في الداخل الفلسطيني، كون أعضاء الكنيست ممثِّلين مِن قِبَل أحزاب، وأحزابهم أوصلتهم إلى البرلمان بهدف تحصيل حقوق أساسية للفلسطينيين في الداخل والدفاع عنهم مِن على منبر الكنيست، ومحاولة فرض قوانين ومتغيّرات في صالح الفلسطينيين في الداخل، ومِن هُنا يتم التداخل في قضايا همومية يومية تشغل المواطنين العرب الذين يعانون مِن الكثير من النواقص والتمييز الصارخ أسوةً باليهود، ويتجلّى ذلك في نتائج الامتحانات النهائية للطلاب العرب، وفي البون الشاسع في نسبة التعليم بين العرب واليهود وفي إيجاد مساكن للأزواج الشابة وأراضٍ سكنية. فالصورة السوداوية في البلدات العربية تُظهِر أنّ هناك كثافة سكانية خانقة تعاني من عدم الحصول على التراخيص وتضييقات أخرى. ومِن هُنا يلتقي أعضاء الكنيست بالهم الفلسطيني للمواطنين العرب، الذين يطلبون مِن السلطات المحلية أيضًا تسهيلات وخدمات أساسية مرتبطة بمعيشتهم اليومية، ناهيك عن أنّ السلطات المحلية هي مُشغِل أساسي لمئات المواطنين في كل بلدةٍ وبلدة.

وحول دور أعضاء الكنيست العرب في دعم الانتخابات يقول عضو الكنيست، ممثل حزب الجبهة الديمقراطية للسلام المساواة، د. حنا سويد: "إنّ قضايا السلطات المحلية ومطالبها، خاصةً العربية، واحتياجاتها موضوعٌ غاية في الأهمية، ويؤكده الاهتمام الواسع ونسبة المشاركة بين المواطنين في هذه الانتخابات. وعليه، فإنّنا نرى في المشاركة، فرصة لرفع المطالب، وتلبيةً لتطلعات وآمال المواطنين بالحصول على ميزانيات أكبر ومساواة في الموارد المُخصصة لتسيير عمل السلطات المحلية العربية".

أمَّا عن أبرز القضايا التي يجب المطالبة بها، فيقول د. سويد: "على ضوء الحياة الخانقة في البلدات العربية والاحتياج إلى مسطحات أراض في جميع البلدات دون استثناء، فالأولوية لقضايا السكن والإسكان، علمًا أنّ الفارق كبير بين البلدات العربية في هذا المجال، وعليه هناك حاجة لتوسيع مناطق النفوذ، حالاً".

ويتابع د. سويد: "أمَّا الأمر الثاني الذي لا يقل أهميةً، وتمّ طرحه طوال السنين الماضية على أجندة عملنا للبرلمان فهو تطوير الاقتصاد المحلي في البلدات العربية، من خلال المُساهمة في دعم إقامة مناطق صناعية، وإيجاد فرص عمل للمواطنين، وإقامة مؤسسات اقتصادية في البلدات العربية، كي تتمكَّن من تحصيل جزء بسيط من التطور الاقتصادي والتعليمي والثقافي أسوةً بالوسط اليهودي في إسرائيل".

ويتابع د. حنا سويد طرح القضايا التي يجب معالجتها محليًا (السلطات المحلية) وقطرياً (البرلمان الإسرائيلي)، وعلى رأسها: "ملف التعليم ومجابهة الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والعنف المتزايد والقتل والمتاجرة بالسلاح وهذا دور السلطات المحلية، وهي بالأساس دور مؤسسات الدولة التي تُشرف على إعطاء خدمات وميزانيات، لأقلية قومية في دولة قامت بالسيطرة على المكان والإنسان بالقوة عام 1948".

كما يؤكِّد د. سويد أهمية مشاركة الأحزاب في خوض انتخابات السلطات المحلية والحكم المحلي بشكلٍ مكثَّف، رغم بروز بعض الإشكاليات بسبب عوامل محلية لافتاً إلى أن لا شيء يمنع تداخل السياسة بالاهتمام المحلي، لأنّ هناك تداخلاً مشتركًا بين الأمريْن لا يفصل بينهما شيء، بل على العكس هناك ضرورة لربط المطالب والاحتياجات والقضايا المحلية بالنضال السياسي والعام الذي تخوضه الأحزاب السياسية على صعيد المجتمع العربي.

من جهته يرى عضو الكنيست، الممثِّل عن حزب التجمع الديمقراطي في الداخل، د. باسل غطاس أنّه يجب على الأحزاب السياسية أخذ دورها في دعم القوائم المُنتخَبة، مما من شأنه رفع مستوى الانتخابات من كونها عائلية وحمائلية إلى مستوى يكون فيه مرشح الرئاسة شخصًا واعيًا لهموم أبناء شعبه، وينظر بجدية إلى دوره في تحسين الخدمات وفي دفع المجتمع العربي قُدمًا باتجاه المُشاركة الجماهيرية بعيدًا عن النزعات العائلية أو الطائفية وما إلى ذلك.

ويضيف د. غطاس "لاحظنا تغيُّراً ملحوظاً في الانتخابات الأخيرة، من خلال مشاركة المواطنين في صُنع القرار، وأيضًا أخذ النساء دوراً أكبر، وإن كان غير كافٍ، في المعركة الانتخابية، وهذا بحد ذاته تطور نوعي للفلسطينيين في الداخل".

كما يرى د. غطاس أنّ المعركة الانتخابية في السلطات المحلية تُسهم في تعزيز مفهوم الديمقراطية لدى الفلسطينيين في الداخل، بحيثُ يُتاح لهم ممارسة حقهم الشخصي في اختيار مَن يقودهم.

 

المطالب بين المنشود والموجود

يلتقي رؤساء السلطات المحلية عادةً ضمن تنظيميْن: لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في اسرائيل، (ومهمتها متابعة ومعالجة ورفع سقف النضال الفلسطيني في الداخل)، واللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، (ومهمتها الربط بين هموم واحتياجات أبناء المجتمع العربي في الداخل وبين المؤسسة الإسرائيلية التي مِن المفترض أن تقدّم الميزانيات المطلوبة لجميع السلطات المحلية العربية وفق اعتبارات فردية لكل بلدةٍ وأخرى).

ويُسهم هذان التنظيمان بتأطير المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل من خلالهما، في تحقيق متطلبات اجتماعية وسياسية، عبر تخطيط استراتيجي مدروس ومتَّفق عليه. وبناءً على هذا الواقع، فإنّ هناك قرارات يجب السير وفقها، لكنّ الأمور في الواقع لا تسير تمامًا كما يتوخى المواطن الفلسطيني من ممثليه في هذين التنظيمَين، وأبرع النقاط الـمُتَّفق عليها (مبدئيًا) هي:

•العمل الـمُنظَّم المنهجي والتدريجي لإقامة لجان فرعية مهنية – تخصصية، وإعادة تفعيل اللجان المهنية القائمة، في إطار اللجنة القُطرية وهيئاتها المختلفة، لتكون بمثابة قوة داعمة لمواقف وقرارات اللجنة والإشراف على تنفيذها في شتى الميادين، ومنها: (الميزانيات والشؤون المالية – الاراضي ومناطق النفوذ – الصناعة والتصنيع – المقدسات والأوقاف، السياحة، العلاقة بين السلطات المحلية والجمهور، العلاقات بين السلطات المحلية والأحزاب والحركات السياسية العربية)

 •إعادة بناء وتعزيز الثقة المتبادلة بين السلطة المحلية والجمهور، على اساس تدعيم وتطوير ثقافة الانتماء والالتزام الجماعي المشترك، المحلي والقُطري، ونحو تحفيز الجماهير العربية للقيام بتنفيذ التزاماتها تجاه السلطات المحلية، ومن أجل توسيع مُشاركة الجمهور بالتخطيط والتنفيذ للمشاريع الكبرى التي تخدم المدن والقرى العربية، من خلال إقامة لجان أحياء وغيرها من آليات التواصل، لا سيما بالتعاون والتنسيق مع الأحزاب والحركات السياسية، المحلية والقُطرية، والالتزام بثقافة الحوار الحضاري والديمقراطي الحقيقي عند الاختلاف، وللتفاعل الشعبي في مواجهة السياسة الرسمية التي تُميّز بحقنا ولا تميّز بيننا، في سبيل بناء مستقبل جماعي أفضل

• العمل الجماعي المشترك والموُحَّد، في إطار اللجنة القُطرية، بما يُطوِّر الأداء نحو الذات الجماعية وفي مواجهة السياسة الرسمية المنهجية للمؤسَّسات الإسرائيلية، بهدف تحقيق أكبر قدر من الانجازات والمساواة المدنية والقومية، كجسم واحد وموّحد، وإفشال جميع محاولات إختراقه

•إعادة بناء وتطوير العلاقة والتعاون بين رؤساء السلطات المحلية العربية، وأعضاء الكنيست العرب، ومختلف الاحزاب والحركات السياسية الممثِّلة للجماهير العربية وقضاياها، على أساس تكاملي وبما يخدم مدننا وقرانا وجماهيرنا العربية في مختلف المستويات.

•استنكار ورفض سياسة هدم البيوت العربية لا سيما في منطقة النقب، والإصرار على التصدي لها

• مطالبة مركز السلطات المحلية في البلاد بدعم مواقف ومطالب السلطات المحلية العربية.

سلطات محلية عربية ملبية لاحتياجات المواطنين... مطلبُ الساعة!

ويشير الباحث البروفيسور محمد أمارة، محاضر في قسمي العلوم السياسية واللغة الانجليزية في كليات إسرائيلية، في البداية إلى الأزمة المتفاقمة أكثر فأكثر في الحكم المحلي العربي في الداخل، والتي تكشف النقاب عن عجز هذا الجهاز في التأقلم مع التغييرات بالوتيرة المطلوبة، سيّما أنّ هناك تحديات تواجهها السلطات المحلية العربية تتجلّى بالمسائل التالية:  

1- محدودية وانخفاض مصادر الدخل الذي يعتمد بشكل رئيس على ضريبة البيوت (أرنونا)، بسبب غياب اقتصاد محلي ذي شأن، أو مناطق صناعية، وهو ما لا يكفي لتأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.

2- السياسات الحكومية- المتمثِّلة بالتمييز والغبن اللاحق بالبلدات العربية، والاستثمار بالبلدات اليهودية وإبقاء البلدات العربية بلا مصادر دخل مستقلة.

3- انعدام الثقة بالدولة والمؤسسات الحكومية، والنابع أساسًا من التمييز الصارخ، الأمر الذي يُسهِم في عدم الثقة بين موظفي الوزارات والسلطات المحلية العربية، ما يعني ميزانيات أقل.

4- حجم السلطات المحلية- الذي يؤثِر على تقديم مستوى الخدمات، فالسلطات الكبيرة تستطيع أن تقدم خدمات أفضل. وعندما نشأت محاولة لدمج سلطات محلية عربية، كانت هنالك معارضة كبيرة لأسبابٍ وجاهية، لا مبدئية.

5- سوء الإدارة والقصورات في السلطات المحلية العربية الذي يتضح من خلال تحوّل بعض الرؤساء في السلطات المحلية إلى رؤساء سلطة، أي تشريف لا تكليف (مخترة)، في ظل الانتخاب وفق تركيبة الحمائل والعوائل، أي أنّ الولاء كائن للحمولة وليس للمواطنين الذين انتخبوه على خلفيّة برنامج محدد وواضح المعالم. وعليه ليس شرطًا أن يتم اختيار الانسان المناسب للمكان المناسب.

6- اختيار الرئيس المنتخَب في الكثير من الأحيان لمقرّبين (عائليًا أو سياسيًا)، وأشخاص غير أكفاء، وقد يكون شرطًا لوصوله إلى السلطة المحلية.

7- المحسوبيّات والفساد الذي يتجاوز الحدود، وهي من خصائص الحكم المحلي في إسرائيل عامة، بسبب انعدام قيم واضحة تحكم التصرف بالمال العام، ناهيك عن بعض الممارسات غير الأخلاقية (عربدة، وتجارات مشبوهة، وغيرها...)

8- انعدام التخطيط للمدى البعيد والقريب أيضًا.

9- اعتماد سياسة "الباب المفتوح" لرئيس السلطة، بحيثُ تكون مكاتب معظم الرؤساء مفتوحة طوال الوقت للجمهور، ونسأل أين الوقت الذي يكرسه الرئيس للسلطة؟ أو لربما يفهم أنّ هذه هي طبيعة وظيفته، وكأنّه (مختار) يلتقي بالمواطنين في المضافة!

10- انعدام التمثيل النسائي في السلطات المحلية كرئيسات وعضوات مما يحول دون فرض واقع يدفع باتجاه المساواة بين الرجل والمرأة.

 

حقائق دامغة تتعلق بالسلطات المحلية العربية!

يرى المحاضر في العلوم السياسية بجامعة حيفا الباحث البروفيسور أسعد غانم أنّه بالرغم من أن الانتخابات الأخيرة أفرزت واقعاً يُشير إلى ارتفاع مستوى كفاءة ممثلي الجمهور في السلطات المحلية العربية، إذ بات بينهم حاملو شهادات عُليا (ماجستير ودكتوراه)، إلا أن هؤلاء يعجزون عن التوفيق بين انجازاتهم العلمية والتعامل مع إدارة الحكم المحلي، فينتهي بهم الأمر في الكثير من الأحيان بالتعاطي مع الحكم بصورة بدائية (جهوية)، مما يضر ببناء مجتمع سياسي في مدينة عصرية، التي تفرض علاقة قانونية رسمية بين الفرد وبين البلد والجماعة والمؤسسة، كون الفرد ينتمي إلى الجماعة وليس للعائلة الفلانية، وهكذا يفشل رئيس السلطة المحلية الجديد في التغاضي عن مصوتيه ومَن لم يصوّت له يوم الانتخابات، لذا تلمس قصورًا في الأداء تجاه جهاتٍ معينة، لم تختره للرئاسة".

ويضيف بروفيسور غانم: "حتى يتم تحسين القدرة على التعامل مع مشاكل البلد، والتعاطي مع الجميع يجب إعطاء حرية للفرد من خلال نيل الحقوق وتقديم الواجبات، بغض النظر عن لونه وجنسه وانتمائه، كما يجب الإصرار على مستوى معيّن من القدرات المهنية للمرشَحين، ويجب أن يُدرس أمر اختيار الرئيس بحيثُ يكون قادرًا على الإدارة وتحمُّل المسؤولية، فلا يمكن لرئيس سلطة محلية أن يكون جاهلاً في قراءة الميزانية مثلاً أو في بناء برنامج أساسي لتطوير البلد، ولا يملك طرقاً أساسية في الإدارة، ولا يجيد أبسط الأمور، كاستعمال الحاسوب وتوجيه رسالة مكتوبة. كذلك ففي واقعٍ فيه العولمة هي المسيطرة، يستهجَن أن يكون رئيس البلدية لا يجيد اللغات العالمية (الانجليزية) لغة الانترنت، وعكس ما يعتقده أن العربية أو العبرية كافية، بل إنّ اللغة الرسمية التي في العالم المتقدم هي الانجليزية، وفي حال الافتقار لأبسط الأمور الأساسية المطلوبة من رئيس البلدية فكيف سيكون في أمورٍ مصيرية؟ وكيف له أن يحقِّق تطلعات الناس؟".

ويتابع بروفيسور غانم "أرى أنّ السلطة مهمة لأنها تتعامل مع القطاع المحلي وقادرة على خلق واقع محلي من ناحية أنماط العلاقات الاجتماعية والخدمات والمتعامل مع الاحتياجات الأساسية والتخطيط، لكن الأنماط المشاركة في الانتخابات لا تزال تميل إلى الصورة النمطية القروية البسيطة، بينما هناك طبقات وسطى تتوقع خدمات على مستوى عالٍ وتشغلها أمور أعلى، يهمها النظافة العامة والتخطيط والتواصل والإشراك في اتخاذ القرارات، وهي متطلبات تستطيع أن تحدث نقلة نوعية في تحول البلدة إلى عصرية متطورة، وإلا فستبقى البلدة مزرعة شخصية يتم توارثها من فلان إلى علان، كما هي السلطة الأبوية المتوارثة، ومجتمعنا الفلسطيني في الداخل لا يزال قرويًا بالمبنى حضاريًا بالمظاهر والرفاهية فقط. وبعد أن كُنا نقود أحزاباً سياسيةً ونُحدِث انقلاباً لصالحنا، عدنا لترسيخ العائلية والطائفية بمفهومهما السلبي والمسيطر، حيثُ إن ما استطاعت الأحزاب تحقيقه من تغيير وفرض وجود، تراجَعَ أمام العائلية والفئوية، التي برزت في هذه الانتخابات الأخيرة "السيطرة الأبوية والعائلية" بصورة مخيفة، بل ومدمِّرة للمجتمع العربي، خاصةً أنّ المناصب المهمة والقضايا الأساسية مبنية على العنصر الجهوي (القبلي)، بما في ذلك التعليم وتقديم الخدمات البسيطة للفرد في مجتمع فلسطيني".

من جهته عرض مدير مركز مدى الكرمل (المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة في حيفا)، الباحث د. عاص أطرش استطلاعًا سبق العملية الانتخابية جاء فيه انّ 56% من المواطنين يعتقدون أن الدافع الرئيس والأكثر تأثيرًا على اختيار الناس لمرشح الرئاسة هو الانتماء العائلي، تليه كفاءة المرشح في ادارة السلطة المحلية بنسبة 27%،  واعتبر أنّ 23 % فقط  يكون "البرنامج الانتخابي" للمرشَح دافعًا للتصويت. ولم تختلف النتائج كثيرًا عندما سُئل المستطلَعون عن أهم الدوافع لاختيار قوائم مرشحي العضوية للمجلس المحلي إذ قال 59 % من المستطلَعين أن "الانتماء العائلي" هو الأمر الأساس.

وفي سؤالنا لد. عاص أطرش عن اتجاه مجتمعنا للعائلية، أجاب "هنالك عدة تفسيرات لهذه الظاهرة وعلى رأسها صراع النفوذ داخل كل قرية وقرية على مراكز القيادة في السلطة المحلية، وهو في أساسه صراع اقتصادي. والأمر الثاني هو المكانة الاجتماعية للعائلة، بحيثُ تكون فيه العائلة هي القائد أو الموجِه الأساسي في سير الحياة وفي سلوكيات الأفراد في البلدات العربية، ولا يقل عن هذا السبب كون السلطة المحلية هي المشغل الأكبر للموظفين والأكاديميين والعمال في البلدات العربية، أي أنّه مصدر اقتصادي أساسي محفّز للمشاركة في المعركة الانتخابية.

وهكذا فإن هذه العوامل مجتمعة تؤدي دوراً محفِّزاً لاختيار رئيس السلطة المحلية الذي يمكن للآخرين الانتفاع بفضله، وهنا يبرز الفرق بين وجاهية الانتخابات المحلية، وبين ما يدور في كواليس الانتخابات البرلمانية.

 

سُبُل النهوض بالحكم المحلي!

وبناءً على ما تقدّم فإن المطلوب للنهوض بالحكم المحلي يكمن في:

1- اعتماد معايير صارمة لاختيار رؤساء السلطات المحلية، بحيث يتم انتخاب الشخص لكفاءته لا حمولته وطائفته  2- إقامة حملات توعية هادفة لترسيخ مفهوم السلطة المحلية كرافعة مجتمعية تتطلَّب من رؤسائها نزاهةً وتنظيماً وتحمُّلاً للمسؤولية 3- ضرورة التخطيط من أجل التأثير على سياسات الحكومة وفرض مقترحات عملية وعلمية لتحقيق نتائج أفضل في حقّ السلطات. 4- تعيين مهنيين مناسبين وذوي كفاءة. 5- تأهيل وإرشاد مكثف لرؤساء السلطات المحلية وموظفي الأقسام لرفع جودة الخدمات العامّة المقدمة. 6- التخطيط للمدى القريب والبعيد، وفق رؤى مدروسة ومحسوبة. 7- تشجيع العنصر النسائي للوصول إلى مراكز التأثير (الرئاسة والعضوية) ولضمان توظيفهن في مناصب مؤثِّرة.

وتبقى النقطة الأهم التي من شأنها تغيير الواقع الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون في الداخل، بفعل الوضع الاجتماعي الصعب المتمثل بما ذكرناه سلفًا، وعليها أجمع الباحثون الذين تعاونوا مع "مجلة القدس" في التحقيق، حيثُ أكَّدوا أنّ هناك حاجة لدورٍ قيادي ومسؤول للمثقفين والباحثين والكوادر الحريصة على مصلحة الفلسطينيين في الداخل بالمساهمة في ترسيخ التربية والثقافة والتعليم المخصَّص للمجتمع العربي، وهو أمرٌ سيحتاج إلى الكثير مِن الجهد والوقت لكنه كفيل بتغيير الصورة السلبية عن الفلسطينيين في الداخل، وبالتالي سيُسهم في تقدُّمهم ليس محليًا فقط، بل في انتزاع الحقوق اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا أيضاً على المستوى القُطري داخل إسرائيل، وعلى المستوى العالمي، كون المجتمع العربي في الداخل يمتلك القدرات العلمية والثقافية العظيمة والمِبشرة بالخير.