اتركوه مستريحاً، لا تعيدوه مشوّهاً الى الحياة، اتركوه طيفاً محلقاً مع الحمام، اتركوه يعيش فينا كما نحبّ، اتركوا أيدينا تتلمس دواوينه في العشيّات هرباً من ايامنا السود، كل واحد فينا أخذ منه شيئاً ما، ربما أخذناه كلّه، ليس فينا من لا يريد ان يرى محمود درويش أبعد من زهر اللوز وأثر الفراشة. تحلّ ذكراه الثالثة، وأيامنا محفوفة بالمخاطر والمآسي، وقلوبنا مهترئة ومفجوعة، المحبة أضحت من المحرمات، والإلفة وجع قلب، والنفاق تشاطراً وتذاكياً على الناس! تحلّ ذكراه وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية ليست بأسعد من ايامه، ورغم ذلك افتقدناه، افتقدناه.
كنّا ننتظر معارض الكتب ، لنذهب اليها مسرعين، نقلّب الرّفوف أملاً في العثور على ديوان جديد له، ولم يكن مخيّباً للآمال، فشعره يملأ المطارح والمكتبات. في شهر آب في التاسع منه، سقط زهر اللوز على الارض، سقط الصنوبر والسنديان، سقط جلجامش ممدداً على سرير الذاكرة، ترك الحصانُ بيته وذهب الى جميع البيوت، مات "جميلاً" كما كان يحب ان يموت. وذرفت قلوبنا ما لديها من وجع على أرض الغياب. فمحمود ابعد مما قيل وما يقال.
ومن الحب ما قتل:
فلماذا طرقتم باب الغياب، اتركوا هذا الغياب بمذاق العنّاب في حلوقنا، فلا كانت مسلسلات، ولا كان تمثيل، كنا نريد ان نرى مسلسل " في حضرة الغياب" يليق بهذا الغياب، كنا نريد ان نراه كما كنا نتمناه، وكما احسسناه. انتظرناه مطولاً في غرف مسكونة بالاحلام، وألوان الهدهد، ورائحة فلسطين، وأشجان الأمهات. كنا نريد ان نراه بإحساسنا نحن وليس كما رأيناه! يستطيع المرء للوهلة الأولى وأمام اي عمل فني، ان يكوّن فكرة أولية عن هذا العمل، قبل الدخول في تفاصيله، يستطيع ان يراه بعين ثاقبة وناقدة، ولكن طعم المرارة بدأ من الحلقة الاولى من مسلسل "في حضرة الغياب". ما اضطرني أن أشيح بنظري عنه لئلا يخدش صورة الشاعر الحاضرة فينا حضور الحاضر، وليس حضور الغائب ، فالعمل يعنيني كقيمة معنوية وفنية، لقامة محمود درويش الشاعر والانسان، وليس لأي شيء آخر. وجدت في هذا العمل سقوطاً مدوّياً من الضربة الاولى! فبرغم انتظاري لمشاهدة المسلسل على الشاشة الصغيرة، الا اني لم أجد ما يجذبني اليه، شعرتُ به مسلسلا ركيكا سقيما لا ينبض بالحياة، لا نصاً، ولا روحاً، ولاتمثيلاً، كأنّ أحداثه بدت قوالب جاهزة لمواضع معينة، بعيدة كل البعد عن العفوية والتلقائية، وبدت نافرة ومقززة في غير محل، وسياقها مرتبك ومتآكل، وطريقة القاء القصائد مفتعلة باهتة، ومرتجلة، ولم تلعب الشخصيات أدوارها بمهنية كافية لبث الحرارة في المسلسل، فطمس جليد السطح الروح المعنوية للقصائد، وغطاها ببرودة وثلج عميم، وطفا على السطح تمثيل مصطنع وادوار لا تخلو من خفة بعقل المشاهد. صحيح ان هذا المسلسل ليس وثائقياً، ولا يعبر عن التدرّج الزمني والتاريخي لحياة الشاعر، ابتداء من نكبة فلسطين وتأثيرها على حياة محمود درويش، مروراً بمعاناته مع المرض بشكل حقيقي، ولكنه في نفس الوقت لم يراع تسليط الضوء على اللحظات الحرجة والمؤلمة في حياته، ولا حتى الصراع الذي كان يتفاعل في داخله كمونولوج صامت الذي لا يمكن التعبير عنه الاّ في القصائد، فهذا المسلسل لن يستطيع ان يسبر اغوار هذه الشخصية وعلى الاقل، في ثلاث محطات أساسية:
أولاً: التأثير السياسي في حياته كإنسان وشاعر من مرحلة الاحتلال الى مرحلة بيروت.
ثانياً: مرحلة الصراع مع المرض في اكثر من محطة (الجدارية) حتى يوم وفاته، والابعاد الانسانية والوجدانية السامية التي تميّزت بها هذه المرحلة.
ثالثاً: مرحلة بناء الدولة والتواجد على ارض الوطن، ومفهوم الحرية والسلام والمواطنة والحكم.
لذا لم يعجبني ان اتفرّج على المسلسل لتمضية الوقت والتسلية ارضاء لاسم المسلسل والشخصية المعنوية فيه. فلم يعجبني أن أرى الشاعر سائحاً يلقي قصائده هنا وهناك ليستدّر عطف المعجبين بطريقة مجانية، ولم يعجبني الانفعال المفتعل في جميع المواقف والمشاهد التي رأيتها فيه، ناهيك بالاخطاء اللغوية في خضم العصف الشعري والالقاء البليد. وليس من المنطق بمكان ان نبقى مسمّرين نشاهد صورة هذا الرجل الكبير، وايقونة فلسطين، تتهاوى من اجل الوصول الى نهاية الحلقات، لنحكم على المسلسل بالفشل او النجاح، حسب رأي القيّمين عليه! ( فالمكتوب يُقرأ من عنوانه)، والجمهور دائما هو الذي يحكم على الاعمال الفنية إن كانت فاشلة او ناجحة، فلماذا نغيّب رأي الجمهور هذه المرة؟ وقد حكم على المسلسل منذ اللحظات الاولى! فاذا كنتم تحبون محمود درويش فعلاً، فلا تنسوا ان ( من الحب ما قتل!) واذا كان هذا المسلسل ليس وثائقياً ولا تسجيليا فما هو اذن؟ وقد غابت عنه كل عوامل الربط المنطقي للاحداث والمواقف، والميلودراما الحقيقية. عدا عن انه لم يخدم الفكرة التي انطلق من اجلها بأي شكل من الاشكال! بل شوّهها. ان الذين ارادوا ان يقوموا بهذا العمل بالتأكيد يحبون الشاعر، ولم يكونوا يقصدون غير تكريمه بعمل يليق به، ولا يقبلون ان يُمسّ إرثه بأي سوء، ولكن لم يأتِ العمل كما كانوا يرغبون ( تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) والمطلوب سحب هذا المسلسل من التداول لا اكثر ولا اقل.
الغياب طغى على العلن
لم يكن محمود درويش الشخص العادي الذي أحبه الناس على المستوى المحلي والعالمي، من دون ان يكون له هذا الرصيد الشعري الغني بالقضايا التي تهم كل انسان في اي مكان، وهذا ما ميّزه عن غيره من الشعراء السابقين واللاحقين. انطلق محمود درويش بشعره كمقاوم للاحتلال، ومقاومته كانت مربكة ومحيّرة للمحتل، لم يحمل بندقية في وجه هذا العدو، لكن بندقيته كانت من نوع آخر بندقية الكلمة التي أقلقت المحتل وحاصرته في قلبه، كما حاصرته في وجدان الشعوب الرافضة للاحتلال، والمحبة للسلام، والمدافعة عن الحقوق والقضايا الانسانية المحقة والعادلة، فحكم المحتل على اشعاره بالاعدام " عابرون في كلام عابر". وتمت ملاحقته واعتقاله لاسكاته، لكن صوته الشعري أمضى من السيف، وأقوى من الصخر، لم ترهبه الملاحقات والاعتقلات، ولم يفعل كما فعل ابو فراس الحمداني وهو في معتقله بخرشنة " اقول وقد ناحت بقربي حمامة"، بل كان مستفزّاً ومتحدياً له " يا دامي العينين، والكفين/ ان الليل زائل/ لا غرفة التوقيف باقية/ ولا زرد السلاسل/ نيرون مات، ولم تمت روما/ بعينيها تقاتل/ وحبوب سنبلة تموت/ ستملأ الوادي سنابل". لا يفري الحديد الا الحديد، وهكذا اخذت مواقفه السياسية والوطنية تتعمق وتتجذر، ضد سياسة القمع والطرد والاقتلاع. " وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر". وحين بدأت الجدران ترتفع على صدر الوطن ، وحواجز الاغلاق والحصار تسد المنافذ، وبدا الوطن كأنه غوانتنامو جديد، وتُمارس على شعبنا كل انواع الاضطهاد العنصري " الابارتهايد"، دعا الناس الى العصيان والتمرد ورفض الذل والخضوع " حاصر حصارك بالجنون/ فإما نكون او لا نكون". فالحياة مبدأ وجود، ولا يستطيع احد ان يلغي الآخر مهما بلغت قوته وسطوته وبطشه. وجد في فلسطين كينونة الوجود، ليس ما قبلها قبل، وليس ما بعدها بعد، هي " ام البدايات /ام النهايات/ كان اسمها فلسطين/ صار اسمها فلسطين" وسيبقى اسمها فلسطين في العقول والنفوس، وفي القلوب والذاكرة في التراث والتاريخ، في الخريطة التي عشقناها من البحر الى النهر، لأن "على هذه الارض ما يستحق الحياة". محمود درويش المقاوم، كان انساناً رقيقاً شفافاً كالفراشة، يستحق شعره ان يظلّ عسلياً فلسطينيّ المذاق، عالمي المستوى لما تضمن من قضايا انسانية تهم الانسان في كل وقت وزمان، كالحرية، ومقاومة الاحتلال، وعدم التمييز، والتمسك بأرض الاجداد، فكان وجدانه مجنحاً بالمشاعر والخواطر الانسانية، خصوصاً ما لمسناه منه في مرحلة المرض. في هذه المرحلة كان له مواقف كثيرة، ومحطات انسانية كبيرة، وعظيمة، ابتداء من "الجدارية"، الى " لاعب النرد" حيث تميزت بالكثير من المعاني الانسانية والوجدانية الخلاقة "وكأنني قد مت قبل الآن"، " انا مثلكم او اقل قليلاً ولدت الى جانب البئر" ،" وسُميتُ باسمي مصادفة/ وانتميت الى عائلة مصادفة/ وورثت ملامحها والصفات وأمراضها". نصّه الشعري مفتوح على كل الاتجاهات، ابتداء من اقرب شيء وانتهاء باقاصي الخيال، وهو من الشعراء النادرين الذين تجد في نصوصهم التوازن المحكم بين الاسلوب والتجربة الشعرية، او بين الحالة النفسية واللغة الشعرية، وقليلون ممن انتبهوا الى ان محمود درويش انتبه الى اشياء بسيطة، وبذات الوقت لها معانٍ خالدة، "خبز امي"،"وقهوة امي"، "ولمست امي" ففي هذه البساطة قمة في الاعجاز والاختصار والدلالات المتنوعة الرقيقة، لم يتوقف صوته الشعري الخلاق عن التجديد الدائم وشقِّ طرقٍ جديدة وحديثة وغريبة أمام الشعر الحديث، حتى اصبح قدوة لكثير من الاقلام، فتح ابوابا وطرائق وميادين متعددة ومختلفة، وما حفلت به دواوينه وكتبه الاخرى خير دليلٍ على ذلك. في هذه - الذكرى المناسبة - وإن كنا لا نقرأ دواوين شعرية جديدة له فعزاؤنا الوحيد اننا نقرأ في شعره دائماً شيئاً جديداً. ومن حق المبدعين مهما كانت صفتهم، مفكرين وأدباء، شعراء وفنيين ان يتناولوا شخصيته وحياته، وابداعاته بروح عالية من المسؤولية لا ان يصيبوه في مقتل، وان كان غير مقصود. فالمسألة ليست سياسية، ولا ديكتاتورية، بقدر ما هي مسألة وطنية ورمزية تتعلق بذاكرة جمعية لا يمكن ان تشيخ.
بقلم: محمد سعيد
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها