ماتوا, فبكينا وغضبنا ومضغنا مرارة مصيرهم ومصيرنا البائس.
والآخرون, برَّروا واتهموا ولم يبالوا وانزعجوا, لأن عيونهم رأت أجساداً أو بقايا منها وقد تضخمت أو نتنتْ.
مجرَّد صور باهتةٍ هم الآن, في قاع الذاكرة, يحضرون بخجل بمناسبة موتهم الأخير.
في صبرا وشاتيلا من ذلك العام الناري, سقط أولئك "البضعة آلاف" من الناس. باتوا كمشهد هوليوودي ركَّبه واحد من أعتى مخرجي زمننا, مع فارق أنهم من لحم وعظم ودم تسرَّب حول أصحابه المتحجِّرين... لا ندري كيف شهقت الأوردة ولا كيف نفرت الدماء. أكانت كفرس شموسٍ، أم كامرأة من فلسطين تقطف الحجارة كأطباق الورد!.
عن المشهد غابت البنادق والحراب والفؤوس والسواطير, غابت ملامح الهمجيين وبريق حقد عيونهم وقهقهاتِ عفاريت جبروتهم وهوس قبضاتهم المسكونة بالسادية والعنصرية.
مساكين أولئك "البضعة آلاف" الذين التحفوا تراب مقبرة شاتيلا بعد سكونهم الأبدي. مساكين, لأنهم تجرَّدوا من الوصايا, تعّروا من أسمائهم وشواهد مراقدهم... حرموا حتى من حقهم في إحصاء عددهم ومن لمِّ شمل أشلائهم. مساكين, لأنهم تلاشوا من ذاكرة أمسهم ومن أمنيات غدهم... رغم ضآلتها.
لا ندري إن كانت اللحظة الرهيبة أثقل من كاميرا التلفزيون أو كاميرا التصوير, وأنهما انتظرا حتى خمود الحدث ليخرجا صورا خالية من ملامح الوهلة وضجيج الأرواح التائهة.
مسكين أبو عمر الذي أرادوه شاهداً على المجزرة, لانه الضئيل البنية والعجوز الطاعن الذي استكثروا عليه رصاصة تليق بجسده. لم يروه أهلا لأن ترفع الفأس فوق رأسه ليرتاح من كابوسه الذي لازمه طوال ما تبقى من عمره.
ترى أيَّة عدسات أو أقلامٍ تستطيع أن تخبرنا عن حال الضحايا خلال اللحظات التي سبقت موتهم, مَنْ رأى لمعان الرعب في عيونهم, كيف مرَّت الدقائق والثواني على الذين انتظروا رصاصة الرشاش أو حدَّ الفأس الذي نزل في أخدود الرأس الطازج؟
من سمعصراخهم, نبرات أصواتهم, ما هي الكلمات الأخيرة التي تطقوا بها؟ ألم يستعجل بعضهم حتفة لكي يختصر مصيره أو يسبق موت ولده أو أخيه أو أبيه أو جاره أو صديقه؟ ماذا قالت العيون للجلاد, وكيف بدت ملامح الوجوه السمراء؟
ماذا عن امرأةٍ ثكلت بزوجها وأبنائها وأخيها وأبناءِ أخيها, بأية لغةٍ تحاكي بناتها اللواتي قبَّلتْ أقدام القتلة لكي يعفوا عنهن من الإغتصاب والقتل؟ تلك المرأة خاطبت القتلة: ألم يكفكم زوجي وأبنائي وأخي وأولاده؟ أرجوكم دعوا لي بناتي.
بعد سبعة وعشرين عاماً لا زال جسد صبرا وشاتيلا ينزف, والآهة لا تزال تدوّي في أثير الضمائر الحية, لكن القاتل لا زال طليقاً... وبريئاً.
بقلم/ محمد سرور
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها