النظام الدولي يمر بحالة من عدم اليقين، والغموض في عملية التحول في بنية القوة والفاعلين الدوليين، والتي باتت لا تخضع لنظريات التفسير الدولية التي اعتدنا على تطبيقها لتفسير حالة التحول من مرحلة إلى أخرى، فلم تعد النظريات الليبرالية ونظريات الواقعية التقليدية وما بعد التقليدية قادرة على تفسير أو التنبؤ بعملية التحول في بنية النظام الدولي، وهيكلية القوة الدولية. فالنظام الدولي مر بمراحل من العلاقات الدولية اتسمت بالثبات والانتظام والالتزام بقواعد القوة التي حكمت العلاقات بين الدول. فانتقل النظام الدولي من مرحلة التعددية التي سادت الفترة من ظهور الدولة القومية في القرن السادس عشر، وتركزت العلاقات في الدول الأوروبية باعتبارها الفاعل الرئيس المتحكم في العلاقات الدولية على اعتبار أن العلاقات الدولية علاقات أوروبية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية والتي تراجعت فيها قوة أوروبا لتبرز قوة الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي كقوتين وحيدتين متحكمتان في القرار الدولي،  وليسود نظام القطبية الثنائية الجامدة ولتتطور بعدها للثنائية المرنة. واستمرت هذه المرحلة حتى التسعينات من القرن العشرين في أعقاب سقوط الإتحاد السوفيتي وتراجع القوة الروسية، وليسود ولفترة وجيزة نظام القوة الأحادية الذي سيطرت الولايات المتحدة على قمة هيكلية القرار الدولي. لكن سرعان ما دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة من الضبابية، وعدم اليقين، والتطورات في بنية النظام الدولي ببروز الكثير من الفواعل من غير ذات الدول كالحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها، والحركات الشعبوية والانفصالية في أكثر من دولة أوروبية. وأدى التطور في وسائل التواصل الاجتماعي، والثورة المعلوماتية والرقمية إلى انتشار غير مسبوق في هيكلية القوة، لدرجة لم تعد الدولة القومية هي الفاعل الرئيس المتحكم في القرار الدولي، وزيادة دور الفواعل من غير الدول  وتأثيرها في توجهات القرار الدولي. ولم يقتصر التغير في بنية العلاقات الدولية على تعدد الفواعل الدولية، وتنوعها، بل التنوع وتباين الأولويات في القضايا الدولية  وبروز قضايا باتت تشكل محوراً في كل التفاعلات الدولية كقضايا الإرهاب والعنف الذي لم يعد قاصراً على دولة دون الأخرى، ولم تعد الحدود القومية قادرة على توفير الحماية الذاتية. ولعل من أبرز التغيرات في بنية النظام الدولي بداية ظهور الشعبوية الجديدة ، وهي صورة قديمة جديدة لعودة الروح القومية في العلاقات بين الدول، كما نرى في شعار أمريكا أولاً، وملاحظة أن مفهوم السيادة قد ورد22 مرة في خطاب الرئيس الأمريكي ترامب في الأمم المتحدة، وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، وبروز التيارات الانفصالية في كاتولونيا، وقد تتنامى هذه الظاهرة في المستقبل لتزيد من تعقيد العلاقات بين الدول، ويلاحظ من التحولات الهامة التراجع في القضايا ذات الاهتمام العالمي كقضايا المناخ وانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ، وانسحابها من منظمة اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان، والتهديد بالاستمرار في تقديم الدعم المالي للأمم المتحدة مما قد يؤثر على فعالية ودور الأمم المتحدة كمنظمة جامعة للدول، وكإطار لتحقيق درجة من التكامل الدولي، مما قد ينعكس على فعالية وقوة الشرعية الدولية. ومن مظاهر التحول والتي انعكست على وهن القوة أحادية القوة التي احتكرتها الولايات المتحدة، وقبلها ثنائية القوة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي وبروز العديد من القوى المتصاعدة في آسيا، وغيرها، كالهند وإيران وكوريا الشمالية، وقوة الصين عابرة الحدود، وهو ما أدى إلى تراجع القوة العسكرية الأمريكية والروسية اليوم.وانتشار واسع للقوى في يد كل القاعين الدوليين وهذا الانتشار أدى لزيادة الرغبة في توسيع مجالات النفوذ للدول الصاعدة، مما أوجد معه العديد من الصراع والتنافس في السيطرة على المناطق الإستراتيجية في العالم. وصاحب هذا التطور زيادة دور الفواعل من غير ذات الدول التي باتت تقوم بدور الحرب بالوكالة بالنيابة عن دول القوة الصاعدة الجديدة. ولم يقتصر التحول في هيكلية القوة على القوة الصلبة ، بل زادت أهمية القوة الناعمة مع تراجع دور القوة الصلبة والتي كانت تحتكرها القوى الكبرى ، وهو ما أدى إلى زيادة دور وتأثير القوى والدول الصغيرة، والذي معه لم تعد التصنيفات التقليدية للدول على أساس معيار القوة صالحة. فقد نجد اليوم دولاً صغرى بمكان تملكه من عناصر القوة الناعمة لها تأثير في القرار الإقليمي والدولي لا يقل أهمية عن قرار القوى الكبرى، وهذا التحول أنعكس على شكل التحالفات الدولية والإقليمية بشكل كبير لم تصلح معه قواعد ومبادئ التحالفات التقليدية.وتبقى عملية التحول في بنية النظام الدولي تتسم بالضبابية والسيولة وعدم اليقين لسرعة التحولات، وعنصر المفاجأة ومع ذلك تبدو في الأفق بعضاً من التغيرات مثل التحولات الفكرية المصاحبة لثورة العولمة والثورة الصناعية الكبرى، ومع ذلك ما زالت بعض الثوابت قائمة ولو لفترة غير قليلة كسيطرة وهيمنة الولايات المتحدة كقوة أحادية، ووقوف كثير من التحولات الدولية على الدور الأمريكي، وهذا قد يكون من أكثر الثوابت في عملية التحول في بنية القوة. وتستوجب هذه التحولات على المستوى العربي قراءة دورة القوة، وتفعيل عناصر القوة الممكنة والمتاحة وتطوير مفهوم القوة الشاملة حتى تأخذ مكانتها في خارطة العلاقات الدولية المستقبلية.