خاص مجلة "القدس" الاصدار السنوي 333 كانون ثانٍ 2017
تحقيق: د.سامي ابراهيم
"لا ضير في أن تكون من سكان المخيّمات على الرغم من الصُّورة النمطية للمخيّمات، والتي يمكن أن تلحق بك، فالعيش في المخيّم فيه الكثير من الحفاظ على الهوية الاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة للفلسطينيين"، هي عبارة حفظها الفلسطينيون عن ظهر قلب وردَّدها على مسامعهم آباؤهم وأجدادهم وتناقلَتها الأجيال منذ النكبة حتى يومنا هذا.
تُرجِمت مقولة الأجداد على أرض الواقع، وطُبِعَت هذه الفكرة في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، وأصبح معظم الفلسطينيين في لبنان والشتات يُفضِّلون العيش في بيئتهم الفلسطينية وفي مخيّماتهم على اعتبار أنّ ذلك يحافظ على العادات والتقاليد. لكنَّ ما غاب عن مقولة الأجداد "أنَّ العيش في المخيّمات قد يُصبح نقمةً على ساكنيه"، نتيجةً لغياب أبسط مقومات الحياة، والتي يأتي في مقدّمها "الحقّ في العيش الكريم" بحسب شرعة حقوق الإنسان.
لعنةُ الشتاء على مخيّم شاتيلا
من المتعارَف عليه في المجتمعات المتقاربة أنّه عندما يبدأ فصل الشتاء يستغلُّه الناس في التقاربِ فيما بينهم، والسّهر حول المدفأة، وسماعِ القصص التي يسردها الأجداد على مسامع الصغار، لكنَّ الوضع مختلف عند الحديث عن المخيّمات الفلسطينية في لبنان، وتحديداً مخيّم شاتيلا، إذ يتحوَّل العيش فيه مع حلول فصل الشتاء إلى نقمةٍ على ساكنيه نتيجةَ تراكم الأمطار والفيضانات التي تحدث في كلِّ مرة يهطل فيها المطر، فتتعطَّل الحياة في المخيّم وتنتشر الأمراض ويواجه السكان ما يشبه العقاب الجماعي.
قد يكون سكان مخيّم شاتيلا الأكثر ترقُّباً لنشرات الطقس في لبنان، إذ يحبس هؤلاء أنفاسهم لدى سماعهم عن موجة شتاء من المتوقَّع أن تضرب لبنان، على اعتبار أنَّ العواقب تكون وخيمةً في كل مرة يهطل فيها المطر، وحول ذلك تعلّق المواطنة الفلسطينية "س.س."، وهي التي خبرت على مدى السنوات السابقة فيضانات المخيّم بحكم سكنها في تجمُّع مباني الأونروا التي تُعدُّ من أكثر المناطق تجميعاً للمياه في المخيّم، فتقول: "نحبسُ أنفاسنا في كل مرة نسمع فيها عن موجة شتاء لأنّنا نعرف مباشرة أنَّ الفيضانات ستبدأ"، وتضيف: "المشكلة هنا أنَّنا نعيش في ما يشبه الحفرة في مخيّم شاتيلا، حتى أصبحنا كنقطة تجمُّع للمياه من المناطق المحيطة".
ولا تقتصر المشكلة في مخيّم شاتيلا على الفيضانات وتجمُّع المياه إنّما تتعدّاها لتعطُّلِ الحياة في المخيّم على مختلف الصعد، بحيث يتحوَّل المخيّم إلى سجن كبير يُمنَع فيه الناس من زيارة بعضهم البعض، وبحسب "س.س." التي تضيف: "نحن نعيش حالةً أشبه بالحصار بحيث نُحاصَر في منازلنا، ويُمنَع علينا الخروج إلى أعمالنا أو إرسال أولادنا إلى المدارس". وتشدِّد على أنَّ المشكلة الكبرى هي في "وصول المياه في الكثير من الحالات إلى داخل المنازل الأمر الذي يزيد من الأعباء على ساكني المخيّم، وما ينتج عن ذلك من رطوبة تسبِّب الأمراض الصدرية والنزلات البردية لدى مختلف الأعمار".
كلام "س.س." يؤيِّده صاحب أحد المحال التجارية في المخيّم والمعروف بـ"أبو حديد"، الذي ولدى سؤاله عن مشكلة الأمطار في المخيّم استبقانا لنُشاهدَ بأُمِّ العين ما يحصل مع اشتداد الأمطار، وما هي إلّا دقائق حتى غمرت مياه الأمطار الشارع، وتعطَّلت حركة المرور، وتعطلت معها الحياة التجارية في الشارع الرئيس من المخيّم، وأصبح كل صاحب محل حبيساً داخل محلّه التجاري.
لكن "أبو حديد" يُحمِّل مسؤولية ما يحصل للقيادات الفلسطينية واللّجان الشعبية التي تعاقبت على المخيّم منذ العام 1985 وحتى يومنا هذا، ويرى أنَّ الأموال التي تلقّاها هؤلاء على مدى السنوات الماضية كانت كفيلةً بتغيير البنى التحتية للمخيّم وتوسيعها بما يتناسب مع الزيادة السكانيّة.
ويذهب "أبو حديد" بعيداً في تفسيره لما يحصل على أنّه مؤامرةٌ تشارك فيها الأونروا لتضييق الخناق على قاطني المخيّم ودفعهم إلى الرحيل عنه.
نظرة الأونروا
كلام "أبو حديد" يناقضه أحد العاملين في قسم الصحة العامة التابع للأونروا والذي رفض الكشف عن اسمه حتى لا يتعرّض لعقوبات مسلكية، فهو يعتبر أنَّ العاملين في الأونروا يقومون بما وسعهم لفتح المجاري حال هطول الأمطار، ولكنَّه يعزو السبب في تجمُّع المياه إلى سببَين، أولهما محدودية الميزانية التي تخصّصها الأونروا لتطوير البنى التحتية وشبكة الصرف الصحي في المخيّم، وثانيهما غياب الأجهزة المتطوّرة التي تعمل على سحب المياه من شبكات الصرف الصحي، موضحاً أنَّ الأدوات التي يستعملها عاملو النظافة التابعون للأونروا هي أجهزة بدائية.
فمخيّم شاتيلا المعروف بأنّه مخيّم دائم أسَّسته وكالة الأونروا في العام 1949 لإيواء المئات من اللاجئين الفلسطينيين الذين تدفّقوا إليه من قرى عدة في شمال فلسطين، ولا تزيد مساحته عن كيلو متر مربع، أصبحَ تعدادُ قاطنيه في العام 2016 يفوق الـ25 ألف نسمة نصفهم من الفلسطينيين والباقي من جنسيات مختلفة. وبذلك يكون المخيّم من أكثر المناطق كثافة بالسكان.
ولا يُخفي العامل أنَّ الزيادة السكانية التي طرأت على المخيّم بسبب النزوح السوري فاقمت مشكلة البنى التحتية وانتشار الأمراض، فشبكات الصرف الصحي لم تعد قادرةً على استيعاب المياه الآسنة ما يجعل القاذورات تتجمّع وتؤدي إلى انسداد شبكات الصرف الصحي وانبعاث الروائح.
ويُحمِّل العامل المتعهّدين -وهم بمعظمهم من أبناء المخيّم- مسؤولية فشل المشاريع التي رصدتها الأونروا لتطوير شبكات الصرف الصحي، وذلك بسبب عدم التزامهم في أغلب الأحيان بدفتر الشروط التي تُقرُّها الأونروا ما يؤدي إلى هدر المال وغياب التطوير.
تفشي الأمراض في مخيّم شاتيلا
تخطّت مشكلة الصرف الصحي الخطوط الحمراء حتى أصبحت تُنذِر بخطر صحي داهم على أبناء المخيّمات، فمشكلة تجمُّع المياه لا تقتصر على التأثير في الحياة اليومية لقاطني المخيّم، بل تتعدّى ذلك إلى تهديد البيئة الصحية لأبنائه. فالمساكن المتلاصقة رطبة ومكتظّة ويعاني العديد منها من قنوات صرف صحي مفتوحة الأمر الذي ينعكس انتشاراً للأمراض، وهو ما تؤكّده الطبيبة هناء عبدالمعطي صاحبة مختبرات الهناء، إذ تشير إلى أنَّ معظم سكان المخيّم يعانون من الربو والأمراض الجلدية، ومؤخّراً بدأت تظهر أمراض الكبد بنسبة تزيد عن الـ70% مقارنةً بمنطقة مماثلة تتوفّر فيها بيئة صحية.
وترى عبدالمعطي أنَّ الزيادة السكانية في المخيّم والاكتظاظ السكني وتلاصق المباني ببعضها، ضاعفت مشكلة الصرف الصحي 3 مرات مما كانت عليه قبل الأزمة السورية علاوةً على ما جلبه معهم النازحون من أمراض دخيلة على المخيّم، ولكنها تشدِّد على أنَّ الذنب لا يقع على النازحين، وإنَّما على القيادات التي لم تتدارك الأمور وتضع خطة طوارئ لمعالجة أزمة الصرف الصحي. وتنوّه إلى أنَّ الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض الوبائية هم صغار السن نتيجة لخروجهم يومياً من منازلهم للذهاب إلى مدارسهم.
وتستمر المعاناة
على الرغم من جهود الجمعيات الأهلية والدولية لتحسين شبكات الصرف الصحي، إلا أنَّها تبقى محدودةً في ظل غياب استراتيجية تتضافر فيها جهود القيّمين على الأمن الاجتماعي لسكان مخيّم شاتيلا، ونتيجة لذلك تستمر معاناة الشعب الفلسطيني وكأنَّ غربته في مخيّمات الشتات غير كافيةٍ ليحمل أيضاً أعباء همَّ تهديد أمنه الصحي والاجتماعي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها