سؤل جلال الدين الرومي من هو الأعظم برأيك: "النبي محمد أم الصوفي أبو يزيد البسطامي؟” فقلت: ما هذا السؤال؟ كيف يمكنك أن تقارن بين نبينا العظيم عليه الصلاة والسلام، خاتم النبيين والمرسلين، وبين صوفي؟
قال: ألم يقل النبي: يا رب اغفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة، في حين قال البسطامي: طوبى لي، فأنا أحمل حب الله ومعرفته داخل عباءتي؟
ثم قلت: حب الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من الماء. لكن في نهاية المطاف، يعتمد مقدار الماء الذي يحصل عليه كل منا على حجم الكوب الذي يستخدمه. ففي حين يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض دلاء، فإن لدى البعض طاسات فقط.”
كان وعاء البسطامي صغيرا بعض الشيء، وقد روى عطشه بعد أن نهل جرعة، وكان سعيدا بالمرحلة التي بلغها.
أما النبي،فقد اختاره الله ولديه كوب أكبر بكثير لكي يملأه. لذلك سأله الله في القرآن: ألم نشرح لك صدرك؟ وهكذا شرح صدره، وكان كوبه ضخما، كان عطشا على عطش بالنسبة له. ولا عجب أنه قال:"إننا لا نعرفك كما ينبغي لنا أن نعرفك, مع أنه من المؤكد أنه يعرفه كما لا يعرفه شخص آخر"-في أول لقاء لجلال الدين الرومي مع شمس تبريز في كتاب قواعد العشق الأربعون. [1]

تظهر وتتطور "الرسالة-الفكرة" ضمن عملية فكرية تتضمن في البدء صناعة أوإنشاء (أو تنزيل) عبر التدبّر والنظر والتأمل، يتلوها قيام صاحبها أومُريدوه بحملها منارة للناس ، وهي الممثلة بحسب الفهم الإيماني اللاحق لما يصبح لدي المؤمنين (الدعوة/الفكرة/الرسالة الاجتماعية أو الإصلاحية أو الثورية)،.

 وقد تكون "الرسالة" ربانية كما في الأديان السماوية، وفي الحالتين فإن انتقال الرسالة من حالتها الصافية الأولى إلى أن تتحول إلى دعوة أو فكرانية (منظومة أفكار= أيديولوجية) غالبا ما يتم ذلك بعد وفاة الرسول أو المبشر أوالداعية الأول.

 

الدعوة تتحول بالزمن إلى فكرانية (أيديولوجية)

الرسالة المسماة الوضعية (غير السماوية) أو الدعوة أو الفكرة الأولى هي كتلك التي نطلق عليها اسم البوذية أوالسيخية أوالمانوية أو الزرادشتية أو غيرها من الأديان التي نعتبرها كمؤمنين أو مسلمين غير سماوية، وتُضم لهذه الرسالة التي حملها أشخاص لم يجعلوا لأنفسهم صلة مع الخالق سبحانه وتعالى مثل الفكر "الماركسي – اللينيني" ومثل الفكر الرأسمالي – الاستعماري...الخ ، وكلها أفكارأولى (رسائل) تحولت مع الزمن من رسالة صافية، كما رسالة الأديان وخاصة الإسلام الحنيف -أو رسالة يعتنقها صاحبها في حياته يراها تمثل حقيقة ما توصل إليها ويسعى لإلزام الآخرين فيها- تحولت إلى منظومة أفكار وتصورات أو أكثر بحسب المفكرِنين (المؤدلِجين) لها.

  غالبا ما تكون هناك لذات الفكرة الأولى/الرسالة أكثر من منظومة من الأفكار القطعية المؤبدة وهي قطعية مؤبدة لأنها لا تخضع لدى هؤلاء المؤمنين بها إلا من رحم ربي للجدل أو النقد وبمعنى آخر يعتقد معتنقها أنه لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها.

ببساطة نقول أن الأيديولوجية (الفكرانية، منظومة الأفكار والتصورات بقوة العقيدة) تنشأ في فترة زمنية لاحقة على الدعوة/الفكرة الأولى/الرسالة، وفي مواقف قد تكون مختلفة وبسياقات متغيرة إلا أنها تصبح مُلزمة كحقيقة ثابتة تأبى النظر والنقد  من قِبل مؤمنين بها.

إن الرسالة مرحلة أولى، وعندما "تؤدلج" وهذه مرحلة ثانية تعبر حقيقة عن "فهم" باتجاه ما –ولا تعبر عن مطلق الحقيقة أو الأصل كله- ويتم تغليفها كتفاسير، وطريقة نظر بقداسة تُسقِط المضمون القدسي من ذات الرسالة إلى ذات التفسير أوالتأويل اللاحق للنزول أو الإنشاء ما يصبح أي هذا التفسير أو "الفهم" هو الأوحد الذي لا يقبل وجود غيره بجواره وهو الحقيقة وكامل المعرفة وما يتلوه أن يُعاد إسقاط القداسة في المرحلة الثالثة على ذات الأشخاص وما يقولونه.

        

اختلاف طبيعة الفكرة الأولى عن اللاحقة

إن صناعة الفكرانية (الايديولوجية) يستدعي إنتاج جيل مؤمن بها، أي بمجموعة (التصورات) و(المبادئ) و(القطعيات) والثوابت المستمدة المستنتجة من (الرسالة/الفكرة/الدعوة) الأصلية، والتي يقول الداعون لها أنها تمثل المصدر الأول إذ أنها هي هي، أي تمثل النص والفكرة الأولى، وتمثل الحقيقة نفسها ، بالطبع كما فهمها مؤدلجوها والمريدون ثم قولبوها.

تماما كما يعبر كل تيار إسلاموي اليوم عن (تياره / جماعته / تنظيمه / حزبه) أنه يمثل حقيقة الإسلام ، أوكما قال حسن البنا (كل فكر الإخوان من الإسلام) أو بمثل ما قال حسن البنا أيضا حصريا وبشكل قطعي أن ("الإخوان المسلمين" هم الغرباء عند فساد الناس، وأنهم دعاة الإسلام وحملة القرآن وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد -صلى الله عليه وسلم- وخلفاء صحابته من بعده.)

 

اليقين وثوب القداسة والشمولية

إن مثل هذا الفكر المؤدلج يستدعي إلباس الرأي (والرأي فكر أنساني نسبي يتبلور بالمواقف والقيم والنظر وهو قابل للتغير والتجدد) أوإلباس الجماعة صاحبة هذا الفكر لَبوس (ثوب) القداسة والتنزيه ما يجعل من التصادم مع الآخر واقعا لا محالة لا بل ويُحض عليه لأنه في المنظور الإسلاموي ، ولكثير من الأيديويوجيات يقوم الشخص (بالجهاد) أو (بالنهي عن المنكر) أو (بقتال الكفار) أو بتجهيل المجتمع أو بمقاومة المرتدين أو أهل البدع ما هو فعل خير.

تكون المعادلة أنني من أهل الحق استنادا للرسالة أو القرآن بالنسبة للاسلامويين وبما أنني من أهل القرآن أو القرآن مرجعيتي –وكأن امة المسلمين مرجعيتها شيء آخر؟- فأنا أو حزبي أقول الحق الذي لا شك فيه والآخر يصبح من أهل الشيطان أو أهل النفاق وتأسيسا على ذلك فأنا في الجنة وهو في النار وا أقوله وهو الأهم حق دوما والآخر باطل دوما ويتمدد الإسقاط ليصبح متصلا بتجويز التكفير للآخر وبالتالي قتله.

المعادلة تقول: الرسالة مقدسة=أنا حامل الرسالة إذن فما أقوله مقدس=غيري باطل=أنا والرسالة واحد=الآخر شيطان=العلاقة بين فسطاطين=الخير يؤدي للجنة والباطل إلى النار=أنا الخير وفي الجنة وهم بالنار=نحن المؤمنين وولاءنا لله وبراؤنا من الآخر وهو الذي يتولى الكفار فهو كافر=القتل=ما على الجمهور إلا الانصياع لهذه المعادلة ففي يدي سيف الحق أنا فقط

الأيديولوجية تُصنع وتُجدل في عملية طويلة، يتم بمقتضاها إحداث تشابك وثيق بين المطلق اليقيني (الحقيقة المطلقة الحصرية بالجماعة أو الشخص) مع الشمولية التي تعني أن هذه الحقيقة المطلقة الحصرية تشمل وتمتد وتعم وتطال كل مناحي الحياة المتغيرة بطبعها، فتصبغ طريقة النظر للنسبي في أمور الحياة بالمطلق غير قابلة للتجاوب مع المتغيرات.

يصبح الشخص أو التنظيم بعد زمن، ومع نشوء أحوال جديدة في تناقض واضح بين الفكر المطلق اليقيني الذي يحمله ويستخدمه كمرجعية ومنهج للحكم والنظر في كل شيء، قلنا يصبح في تناقض مع ماذا؟ مع المتغيرات الحياتية وذلك إن ظل التفكير ومنهج الحكم لا يتطور ولا يتغير لارتهانه للفكرة القطعية المركزية.

   من المتوجب بالنسبة للمؤمن-المتطرف بالفهم المقتصر على فهمه أو حُكمه أن تكون حياته المعاشة أي الحياة الواقعية، أو تلك الافتراضية (التي ينعزل بها الشخص مع ذاته أو فيها أو في جماعته) حياة خاضعة لمطلقية الأفكار أو شاملة لكل المحيط حوله، حسب الفكر المطلق الشمولي الأيديولوجي الذي يحمله، ومن هنا يأتي الحضّ على الدعوة عند التيارات الاسلاموية وغيرها من الأفهام المفكرنة (=المؤدلجة) على [تحصين] الذات ولجماعة والسعي لنشر [المطلق] الذي هو فقط من يمثله، وتحييد الرافضين له، لأن المحيط يجب أن يكون [شاملا] بما يتضمنه من أفكار وحيدة تمثل (الطريق القويم) أو (الحق المطلق) مقابل الباطل وهو كل ما يعاديها.


[1]  مع بعض التعديل بالمعنى الذي أراده البسطامي، ونقلا عن كتاب (قواعد العشق الأربعون)