خاص/مجلة القدس، أطل من كوّة صغيرة  في براكيته إلى الخارج، شعر بانحباس في أنفاسه، حين أدار ظهره إلى أولاده الصغار وزوجته كأنهم عصافير بلا أجنحة توزعوا في أرجاء البراكية... القنديل المعلق على الجدار كان يلقط أنفاسه جوعاً، وزفير أبنه الصغير مثل معزوفة موسيقية اعتاد على سماعها كل ليلة، ينظر إلى حصيرة أكلتها الأيام، يهز رأسه عندما يرى تلك الفرش بلا وجوه...

وبقايا مخدات قرظت أطرافها الفئران، يضرب كفاً بكف، منذ أكثر من سنة يقبع في زاوية براكيته بلا عمل... وزوجته تتحمل تأمين لقمة العيش لعائلته وهي تغسل الثياب في إحدى المستشفيات.

الريح تزأر بين الأزقة الضيقة، والمطر يهطل بغزارة على بيوت التنك في المخيم، تمتلئ الأزقة بالماء والوحول وأكوام القمامة التي جمعتها الرياح من مختلف الاتجاهات.

الدالية ودعتها أوراقها الصفراء وأصبحت عارية تغسل غصونها بماء أيلول، فجأة صرخ صالح، لا أحب الشتاء... أكره هذه الدموع التي يسكبها علينا.. أنه بكاء البحر، وحده يختار حزنه، ربما يشعر بالاطمئنان ويفرّج عن نفسه.. ربما يغفر عن ذنب ما.. يا للعجب! ليس الصغار وحدهم يبكون، علمني أيها البحر أن البكاء ليس نهاية الحزن...

تتجمع الغيوم طوابير طويلة في دورة الريح، تشرق الشمس على تفاصيل المخيم وحناجر تستقمط الصياح، كان صالح يذرف دموعه وقد تمردت ساقية جذبها النهر إليه، شارداً وفي مخيلته براكيات المخيم كأنها مقابر جماعية.

التفت إلى زوجته التي أحضرت له أبريق الشاي، ليستعد الأولاد للذهاب إلى المدرسة، ولا تنسى إعطاء الدواء  لخالد، لقد زادت عليه نوبة الربو، تمتمات تفلت من شفتيه، مسكين خالد، لا أستطيع معالجته عند طبيب أخصائي، أعصابي لم تعد تتحمل رؤيته وهو يكابد نوبة الربو، والأونروا تتهرب من واجبها، حتى الجمعيات والمؤسسات الإنسانية...

أولاده الأربعة يدخلون واحداً تلو الآخر إلى حجرة صغيرة وضع فيها برميل ماء وقد سويت له حنفية للاغتسال منها.

الأم تحضّر فطور أولادها، ترش الزعتر على بعض كسرات من الخبز.

تراجع المطر تعباً، ربما يستريح بعض الوقت، وهدأت أنفاس الرياح، أولاده يخرجون تباعاً حاملين حقائبهم المدرسية، نظر صالح إلى زوجته وسألها إذا كانت ستذهب للعمل؟ وزوجته ترد عليه باستغراب ودهشة، ولماذا لا أذهب اليوم؟ تعلم هذه الأيام ازداد فيها عمل المستشفى؟ والمواجهات زادت حدتها مع جنود الاحتلال الإسرائيلي، كل يوم في شهداء وجرحى، الإصابات كثيرة كثيرة يا صالح..

حسر زوجها رأسه بين يديه، نفث دخان سيجارته إلى الأعلى وخاطب زوجته، اليوم بدي أطلع مع الشباب، الحجر بيسند خابية، وإذا  صارلي شي وصيتي ديري بالك على الأولاد..

خيم الصمت في براكية الحزن، وقع الخطى في أزقة المخيم، أصوات منادية من كل اتجاه، حلقات الشباب تكبر وتكبر، الرايات الملونة ترفرف مرفوعة بالسواعد السمراء، حناجر تردد الهتافات والأناشيد، جنود الاحتلال مدججون بالسلاح خلف سواتر الأسمنت، لم يتمالك صالح نفسه، خرج مسرعاً ودس نفسه بين الجموع، ولسان حاله يقول، الوطن، الوطن أغلى من كل شيء، ما قيمة المرء أن يكون عنده زوجة وأولاد، ولكن لا يملك وطناً... لا وطن بلا حرية، ولا حرية بلا وطن...

زحفت الجموع باتجاه الحاجز الإسرائيلي وهي ترشقه بالحجارة الحشود وجها لوجه أمام رتل الدبابات والجنود المستنفرون، يزداد أطلاق النار، يسقط الشهيد تلو الآخر، حمل صالح علم فلسطين غير خائف من الرصاص، يسقط مضرجاً بدمائه، يرفع علم بلاده ويصرخ بأعلى صوته لا وطن بلا حرية، لا حرية بلا وطن...

 

                                                                        بقلم/ يوسف عودة