زعموا أنّ غرابا كان له وكر في شجرة على جبل،وكان قريبا منه جحر ثعبان ، فكان الغراب إذا فرّخ عمد الثّعبان إلى الفراخ فأكلها،فبلغ ذلك من الغراب وأحزنه،فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى.

وقال له: أريد مشاورتك في أمر قد عزمت عليه.

قال له: وما هو؟

قال الغراب: قد عزمت أن أذهب إلى الثّعبان إذا نام فأنقر عينيه فأفقأهما لعلّي أستريح منه.

قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت، فالتمس أمرا تصيب به بغيتك من الثّعبان من غير أن تغرّر بنفسك وتخاطر بها، وإيّاك أن يكون مثلك مثل العلجوم(وهو طائر) الذي أراد قتل السّرطانة فقتل نفسه (وبعد أن سرد له المثل) قال ولكنّي أدلّك على أمر إن أنت قدرت عليه كان فيه هلاك الثّعبان من غير أن تهلك به نفسك وتكون فيه سلامتك.

قال الغراب: وما ذاك؟

قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك لعلّك أن تظفر بشيء من حلىّ النّساء، فتخطفه ، فلا تزال طائرا بحيث تراك العيون، حتى تأتي جحر الثّعبان فترمي بالحلىّ عنده،فإذا رأى النّاس ذلك أخذوا حليّهم وأراحوك من الثّعبان.

فانطلق الغراب محلّقا في السّماء فوجد امرأة من بنات العظماء فوق سطح تغتسل وقد وضعتْ ثيابها وحليّها جانبا،فانقضّ واختطف من حليّها عقدا وطار به.

فتبعه النّاس ولم يزل طائرا واقعا بحيث يراه كلّ أحد حتّى انتهى إلى جحر الثّعبان فألقى العقد عليه والنّاس ينظرون إليه، فلمّا أتوه أخذوا العقد وقتلوا الثّعبان.

أورد لي صديق عزيز هذه القصة اللطيفة التي عنونها باسم قصة (الغراب والثعبان) من كتاب (كليلة ودمنة) الشهير لإبن المقفع، في معرض دلالته على ضرورة توسيع نطاق الشورى أو الديمقراطية، وما تعنيه من مشاركة أوسع للكوادر والجماهير في حركة فتح وكافة التنظيمات، موضحا أهمية عناصر ثلاثة في فعالية التنظيم أو قوته -كنت قد كتبت فيها- إلا أنه بعد الإشادة بورقتي طلب التوسع فيها،  وهي الورقة التي ضمت مفاهيم التجدد والإبداع أولا والتوسع والانتشار وجذب الجماهير ومشاركتهم ثانيا وثالثا التواصل وعدم الانقطاع والاستمرار.

 

التنظيم والهواء المتجدد

إن حاجات التنظيم كالحاجات الإنسانية، فهي تبدأ من أسفل الهرم (هرم الحاجات الشهير لأبراهام ماسلو) صعودا لأعلاه، وهي حاجات أو متطلبات ضرورية للتأسيس والبقاء، كما للبناء وكما هي للنمو والتطور والقوة.

والتنظيم (المنظمة organization (الذي لا يستنشق هواء جديدا كل يوم من خلال الأفكار الجديدة والأعمال الجليلة و الأعضاء الجدد قد يختنق، لذا فالخروج من حالة العزلة تحت ضغط أطر و هياكل التنظيم الجامدة تستدعي تمتين بناء العلاقات مع كادر الأطر، و بالمقابل تمتينهم لعلائقهم مع الفضاء المفتوح الذي يشكل بحر الجماهير مجاله .

إن المياه التي لا تتجدد تأسن، وكذلك الأمر في عقل الإنسان، وفي البناء التنظيمي فإبقاؤنا للنوافذ مفتوحة واستنشاقنا لهواء متجدد وخوضنا في نهر أو بحر الجماهير يعني بالضرورة ان التجدد واقع مع ما يعكسه ذلك من حيوية ونشاط ونهضوية وتقدم وانتعاش.

إن قيمة الجديد أو تحقيق التجدد أو الإبداع والابتكار قيمة عقلية ومسلكية، قيمة فردية وجماعية ، إنها نظرة حركة مقابل السكون، ونظرة نفض الغبار عن التاريخ ورسم خريطة القادم .

 

في التجدد إسقاط وإكساب

في التجدد والإبداع إسقاط للطاقات المتبددة في سياق العمل، واستبدالها بطاقات جديدة ناجحة وناهضة، وبإلغاء ما كان أولوية كهدف أو نقطة في برنامج أو خطة ثبتت هامشيته ليتراجع مقابل أولوية جديدة، فعندما ينتكس شخص في التنظيم ويأسن بالتفكير السلبي تتجاوزه الأيدي السمراء الناشطة، وعندما يستطيع الطلاب أو الجماهير أن يرسموا شكلا جديدا للمقاومة أو النضال فإنهم بنجاحهم يستبدلون الأولويات لدى السياسيين والقادة، ويتركون وراءهم الرياح تلعب بالفاشلين.

في التجدد و الإبداع إكتساب أيضا وليس إسقاط فقط، انه إبداع لكسب الطاقات الجديدة تلك الفكرية والعملية، ومن هنا يصبح النقد المفضي للتغيير مجال إبداع مطلوب، وليس "ملطمة" و"ورقة نعي" وتحميل مسؤوليات أو منصة للشتائم.

في التجدد و الإبداع قدرة و رؤية وإدراك للمتغيرات، إدراك لمتغيرات المستقبل عبر مراقبة الحراك القائم واتجاهاته وأهدافه وانعكاساته.

 ومن لا يرى الجديد أو لا يدرك المتغيرات يفتقد قدرة قيادية أصيلة، فمن يكتفي بالوصف أو التحليل أو العرض او (الدردشة) لا يفرق عن جدتي كما كان يردد المفكر العروبي هاني الحسن.

 

التنمية البشرية والتدريب

إن تحقيق التجدد يفترض تطوير الذات، وتطوير الجماعة، فمن حيث تطوير الذات على الكادر واجب نحو نفسه وعقله وجسده وروحه، وبالتدريب الذاتي في كل أمر، كما هو في التثقيف و التدريب التنظيمي والإداري على تطوير المهارات أو اكتساب مهارات جديدة أو تعديل للسلوك وتقليص الأخطاء.

تنمية الموارد البشرية لدى التنظيم تعني: إكساب أو زيادة عملية المعرفة والمهارات والقدرات للكوادر العاملة في جميع المجالات، والتي يتم اختيارها وفق اختبارات ومعايير مختلفة، لرفع مستوى كفاءتهم في العطاء لأقصى حد ممكن."

وعملية التدريب ضمن التنمية هي: عملية منظمة مستمرة لا تتوقف على سن أو فئة أو موقع أو هدف واحد، إنما هي ممارسة متواصلة، تماما كما جعل الله سبحانه وتعالى بلوغ الخشوع في الصلاة عبر العملية التدريبية اليومية المتكررة، وكما جعل من قراءة القرآن بمنطق التدبر والتفكير والتأمل مفتاح العقل نحو آفاق لم يدركها من قبل.

 

في التجدد اقتران بالتعبئة

في التجدد و الإبداع أيضا قدرة يمكن أن نستثمرها بالاقتران والتزاوج والتبادلية بين التعبئة والتحريص والحث والتحفيز بالنتيجة المتحققة عبر العمل الذي من الممكن أن يكون للتحفيز فيه دور هام، ما ارتبط بالقدوة من جهة وما ارتبط بالإقناع وصحة الرؤية والاتجاه الصحيح والجماعية .

لن يقوم العضو في أي منظمة سياسية أو اجتماعية أو أهلية رسمية أو غيررسمية بأي عمل محدد أو مخطط أو متقن – إن لم يمتلك حافزا ذاتيا - إن لم يجد المسؤول أمامه، أو يسمع منه ويرى ويحس بآليات تحفيز، وآليات متابعة وآليات مكافأة معنوية ونفسية وليس بالضرورة مادية فكثيرا ما تكفي كلمة الشكر أو نسب الفضل لأهله ثوابا ومكافأة.

قلنا أننا في التنظيم عامة سواء السياسي أو الاجتماعي أو الإنساني بحاجة للتجدد والإبداع وهذا ما وصلناه سابقا، ونضيف ثانية إننا لنبني تنظيما أو جماعة قوية فان عليها أن توسع دوائرها وتتمدد خارج نطاق أبنيتها – التي وجب تطويرها دوما- وتنفتح على آفاق عمل جديدة وأفكار جديدة ما يعني دخول عناصر بشرية جديدة.

الجذب للجماعة يعني دماء شابة وأفكار ناهضة وسياسات تعي المستجدات والمتغيرات، وأهداف قابلة للتطبيق وثقة بالنصر .

 

توسيع "دوائر" الفعل التنظيمي

سراطيات (استراتيجيات) توسيع دائرة أو دوائر الفعل التنظيمي تعني فيما تعنيه أن نرسم بالمشاركة.

- سياسات للاستقطاب والجذب للأعضاء

- سياسات لاستقبال الأفكار الجديدة، وتفهمها ونقاشها وتطويرها

- سياسات لخدمة الأعضاء حيث يبادلون الجماعة/ التنظيم المساهمات بما يعود عليهم من عائدات نفسية وثقافية سياسية.

- سياسات متواصلة لخدمة الجماهير في حاجاتها اليومية وفي معاشها وفي الأهداف السياسية الجامعة.

- كما تحتاج لصنع انتصارات وتحقيق منجزات للتنظيم تجعل من بريق التنظيم يأسر العيون.

من خلال ذلك قد تتسع "الدائرة" فلا تبقى منحصرة أو منعزلة تماما كعقلية (الغيتو) لدى اليهود الذين قصروا الديانة عليهم، ولم يلتمسوا التوسع أبدا فنمت في وسطهم أفكار العنصرية ضد الآخر وأساطير أنهم (شعب الله المختار) أو أنهم "المفضلون" والباقي "أغيار-غوييم" غرباء في الأرض التي مُنحت لهم -كما يدّعون- كعنصر قبلي دون غيرهم و للأبد في محاولة فاشلة للكذب على الله سبحانه وتعالى، وكأنه اله وثني ينتصر لفئة قبلية /قومية/عنصرية ضد غيرها رغم أن الجميع من خلقه، ورغم أن الأرض يرثها (بمعني اعمارها وخلافتها ونشر الهداية فيها وليس تملكها كطابو أوصك ملكية) عباد الله الصالحون.

وكما كان "التفضيل" هو بالهداية التي منّ الله بها على من يشاء من عباده فآمنوا، فإن الطريق يُنار باتساع الدائرة وعدم الانغلاق أو الاعتقاد بأوحدية الصواب أو الحق أوالرأي، ما يجعل الإنسان يسير نحو هوّة تقديس الذات فيشركون مع الله أربابا سواء في المجال الديني أو الإنساني التنظيمي.

 

العقلية الكئيبة والمزامنة مع الله

عقلية التقوقع والتقديس والحصريّة هي عقلية كئيبة لأنها لا ترى الخير في غيرها أبدا، وهي عقلية قلِقة لأنها تخاف الآخر، وهي عقلية سلبية لان الآخر في نظرها هو غيري أكان مصيبا أم مخطئا وبالتالي فهو على خطأ، ولا اعتراف بخطأ، وعقليته الحصرية المرتبطة ب"الغيتو-المنعزَل" و"التفضيل" والقداسة هي عقلية مزامنة للذات الإلهية الوحيدة المنزهة عن كل عيب أو خلل أو قصور.

 عقلية نبذ الآخر هي عقلية التفكير دون مشاورة او مشاركة والافتراض" أنني على حق دوما" ما كان سيقع فيه الغراب في مثالنا الافتتاحي، لو لم يشاور ويفترض أن لدى غيره قدرة وفكرا ورأيا قابلا لأن يستمع له ويساعده على خوض غمار الحياة، والتخلص من ثعبان الأنا والقداسة الذاتية والانغلاق.

إن التنظيم الذي يُغلق أبوابه مفترضا أن هناك من سيأتي ليطرق أبوابه راكعا، هو تنظيم واهم كما الشخص الذي يعتقد أنه ختم العلم وما له وللقراءة أو ما له و التفكّر، فيتطيّر من آراء الغير، بل قد لا يسمعها وهو بذلك ينتكس في مربع الجهالة بعد نور فيطفئ بيديه نور عينيه، بل ونور قلبه.

إن فتح الأبواب تجدّد للهواء، وفيه صحة للخلايا واستعادة لنضارة التنظيم وحيويته، فيما إغلاقها مدعاة للقصور أو الضمور أو مدعاة للعزلة والتراجع.

 

امتلاك عناصر الاستمرار والفعالية

إن تقوية البناء التنظيمي كما قلنا –بل والبناء الذاتي- يحتاج عناصر ثلاثة رئيسة أولها الإبداع والتجدد واستنشاق هواء الفجر، وثانيها رسم سياسات وسراطيات للتوسع والتمدد تتقبل وتتفهم وتعترف بما سواها و تستوعب ولا ترفض، أما ثالث أدوات أوعناصر تمتين البناء التنظيمي وتقويته فهي امتلاك عناصر الاستمرار أو الفعالية أوالتمسك بمفاتيحها وهي 7 مفاتيح كتبنا فيها سابقا ولا بأس من تكرارها ففي الإعادة إفادة، وهي بإيجاز:

1- فعالية الإدارة التنظيمية و القيادة.

2- فعالية النظام بما يمثله من سياسات حاكمة وآليات ووسائل وقوانين على الجميع.

3- فعالية القيم المسيطرة، والأخلاق التي تسري في العروق.

4- فعالية التخطيط الذي يبدأ، وينتهي ليطبق لا أن يحفظ على الرفوف أو في الأدراج.

5- عدم الحياد عن الرقابة والمتابعة.

6- إثراء الحياة الداخلية والاتصالات مع الجماهير وعقد النشاطات وتواصل العمل.

7- تحقيق التجدد في الفكر و الأهداف والأشخاص و الوسائل.

تعد فعالية التنظيم أو استمراره نابضا مشرقا متجددا أمام الناس بمثابة العامل الجاذب لمن هم خارجه، إذ لا يرون منه إلا أعماله وسلوك أعضائه وما لهم وشأنه الداخلي فالجمهور يتعامل مع النتائج. إن استمراره كمحفّز للتساؤل والنظر والمقارنة مع غيره، ومدى نجاحه أو تحقيقه للانجازات يدلّل على قدرته على العمل من جهة، وعلى أن عنده ما يقوله أو يفعله، وعلى قدرة التجدد في الآراء والنشاطات والمفاهيم وتقبل الآخر.

إن عناصر الاستمرار تتفاعل لتعطي رسالة لمن هم في التنظيم ومن هم خارجه على قدرة هذا التنظيم (على التجدد والاستقطاب، التوسع، خدمة الجماهير، خدمة الأعضاء، تحقيق النصر) ولتعطي رسالة على حركيّته لا سكونه أوركونه أو تقهقره (بالطاقات المتجددة وإسقاط المتبددة ورؤية المتغيرات والتدريب والتنمية البشرية للطاقات وربط التعبئة بالعمل).

ومن هنا فان الاستمرار والتفاعل كأداة ثالثة لتقوية التنظيم هي تماما كالكهرباء التي تسري في المصنع، أو كالسماد في الزروع والأشجار التي تهبه الحياة فيدوم.