منذ اليوم الثاني بعد الاعتراف الأممي بفلسطين كدولة، كان ضرورياً الذهاب الى عملية بناء مؤسسات فلسطين الدستورية. لكن السلطة الوطنية الفلسطينية تريثت، لكي تتيح لحركة "حماس" الارتفاع الى مستوى المسؤولية والتحدي، لا سيما بعد أن أصبح لزاماً على الفلسطينيين أن يفعلوا كل ما يستطيعون لكي تستحوذ الدولة شيئاً فشيئاً، على العناصر الرئيسة في تعريفاتها الكثيرة، وهي أنها لشعب يستقر في نطاق إقليمي معين، يتأسس فيه نظام اجتماعي وسياسي وقانوني يهدف الى تحقيق الصالح العام، ويستند الى سلطة مزودة بالحق الحصري في الإكراه، نيابة عن المجتمع ولمصلحته وبالقانون، على نحو ما اختصر تعريف الدولة "إيسمان" و"أندريه هوريو" الفرنسيان، و"سالموند" و"هولاند" الإنجليزيان، وشيحا ومحسن خليل المصريان وغيرهم!
مراكمة العناصر المؤسِسَة للدولة، في الحال الفلسطينية، وصولاً الى تحقيق السيادة، مسألة نضالية باميتاز، وهي الرديف القانوني لكل أشكال الكفاح الوطني، الذي تنخرط فيه الشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار. أما العناصر الثلاثة للدولة نفسها، وهي الشعب والإقليم الجغرافي (الأرض) والسلطة السياسية، فقد توافر منها الأول والثالث، وجاء الاعتراف الأممي بدولة فلسطين، لكي يؤطر العنصر الثاني وهو الإقليم الجغرافي ويعتبره إما محتل (كما في الضفة) أو محاصر من الاحتلال (كما في غزة). وبالمحصلة، كان الاعتراف بفلسطين كدولة، يعطي زخماً وصدقية للمشروع الوطني الفلسطيني، لأن الفقهاء الدستوريين، يرون أن الاعتراف بالشخصية القانونية للدولة، هو عنصر الدفع الأهم لتحققها. وبالطبع يظل أمامنا عنصران حاسمان، وهما الأرض والسيادة، وفي التوجه الفلسطيني لدفع الاحتلال الى الجلاء عن الأرض وتحقيق سيادة الدولة؛ أصبح للوجهة سماتها القانونية الموصولة بإرادة المجتمع الدولي، ومن شأن هذه السمات أن تجعل بقاء الاحتلال ذميمة وعبئاً سياسياً وقانونياً ثقيلاً على المحتل، لا يكابر في تحمله سوى المتطرفين الظلاميين.
مسألة السيادة لصيقة بمسألة الأرض. فهذه السيادة لا تتحقق قبل أن تصبح سيادة دولة فلسطين على أرضها مطابقة لتعريف السيادة نفسه وهي ألا تخضع الدولة لأية قيود داخلية وخارجية تحد من سيادتها وان تستحوذ الدولة على سلطة أصيلة وسامية وموحدة ولا تقبل التجزئة، مثلما أشار الفقهاء الدستوريون.
انقلاب "حماس" في غزة، كان ضد سلطة لم تستحوذ على أي من عناصر الدولة ولم تحظ بالاعتراف القانوني بها باعتبارها كياناً سياسياً في طور الاستقلال. لكن هذه السلطة كانت نواة لمشروع الدولة، وكانت "حماس" في انتخابات 1996 قد حسمت بفقهها الحزبي أمر السلطة واعتبرته حراماً بيّناً. لكنها في انتخابات 2006 استدركت بفقهها نفسه، وجعلت الحرام حلالاً، وهي تضمر الانقلاب على النظام السياسي للسلطة من داخله، وهكذا كان. كان الخطأ هو السماح لها بالانخراط في النظام السياسي قبل الاتفاق على محدداته وسقفه واستراتيجيته وأهدافه، وقد ساعد على ذلك الخطأ وضع الانفلات الذي كان، والتواجد على أرض واحدة لشرعيتين، واحدة ثورية (مقاومة الاحتلال) وهي ظاهرة تاريخية، والأخرى الشرعية الدستورية لمراكمة عناصر الدولة وإدارة حياة المجتمع. ففي أكناف هاتين الشرعيتين، نشأت واختلطت الظواهر الكثيرة على مستوى الشرعيتين: السلاح بيد المقاوم وبيد "طخيخ" الأعراس والاستعراض والاستقواء، في الشرعية الأولى، والترهل والفساد الإداري والتحلل من ضوابط السلوك وقيم العمل الوطني العام في الشرعية الثانية. وبسبب ذلك لم يُعن أحد بفرض أي اشتراط قانوني أو سياسي أو دستوري، على الذين أضمروا الانقلاب على النظام السياسي وانقلبوا!
انتظرنا "حماس" لكي تصالح على أسس دستورية وقانونية. لكنها لم تر في المصالحة ولا في هذه الأسس ما يوائمها، بخاصة عندما انتعش مشروع "الإخوان" في السنة المشمشية. وكان الأذى على هذا الصعيد، هو حرمان الفلسطينيين، من الوحدة التمامية لأرضهم، وافتقارهم الى عنصر الإقليم، وهو العنصر الثاني (بعد الشعب) الذي تقوم عليه الدول. وبات اليأس من احتمالات استجابة "حماس" للمصالحة، سبباً في الذهاب سريعاً الى مراكمة عنصر الإقليم والتعاطي مع غزة المحاصرة والمختطفة، باعتبارها جزءاً مستعصياً من الأرض، بفعل من يحاصرون ومن يختطفون.
وفي مراكمة عناصر الدولة، بعد الاعتراف الأممي بها، بات ضرورياً الإعلان عن البدء في عملية بناء المؤسسات: تعديل قانون الانتخابات ليصبح الوطن، بإطاره الجغرافي النظري دائرة واحدة، وأن يجري التصويت على قوائم وسياسات، لا على أسماء وعشائر وأهواء. وتشارك غزة في الترشيح ولا تشارك في التصويت إن ظلت "حماس" تكابر وتستنكف عن المصالحة وعن العودة الى إرادة الشعب. وفي حال قيام "الجمعية التأسيسية للدولة" أو مجلس النواب، يستقيم حال الكيانية السياسية، وتصبح لدينا الحكومة التي تمثل الشعب وتُسند اليها السلطة التنفيذية العامة.
ما ننتظرة من الرئيس محمود عباس في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير، هو الإعلان عن الشروع في عملية بناء المؤسسات، بدءاً بإعلان تاريخ لبدء الانتخابات العامة على النحو الذي ذكرنا، لكي تنتهي مرحلة طويلة ومريرة من حياة سلطة عالقة بين الأمل والرجاء والصبر على المرارات. هنا إما أن تلتحق "حماس" بموجب محددات سياسية وقانونية ودستورية أو أن تتخلف فتتلقى حكم التاريخ. فالدولة حصلت على الاعتراف القانوني الأممي بها، ولا مجال للانتظار، لأن أوهام "الجماعة" تتناسل ولا ذنب للشعب الفلسطيني الذي تريد منه "حماس" أن يتحمل فوق محنة الاحتلال ووجوب مواجهته، وفوق محنة الحصار في غزة، محنة الوهم والخرافة وانتظار فرسان التحرير بأسماء تميم ورجب ومرسي وسواهم!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها