يلامس المحتلون في هذه الأثناء، ذروة العربدة في برلمانهم المسكون بحفنة معتوهين، معززين بأساطير وأضغاث أحلام، لم ينقلب حجر في القدس يدل على صحة حرف واحد منها. لكنهم بمنطق القوة الفاجرة، المتعالية على الأمم، المحتقرة للحقائق، والمستهترة بمصائر الناس، والمزاودة حتى الوقاحة على زعماء الصهيونية التاريخيين أنفسهم، الذين أسسوا إسرائيل؛ يخرجون في كل يوم بموال جديد لم تسبقه اليهم مخيلات الصهيونيين الأوائل. يتظاهرون بأن هيكلهم المزعوم قام تحديداً وحصراً في موضع المسجد الأقصى. ولو كانوا أقل فجوراً وأرادوا استغلال الاحتلال والقوة الغاشمة في هذه المرحلة التاريخية المظلمة عربياً وإسلامياً؛ لمارسوا الوقاحة مكتفين ببناء هيكل لهم في القدس الغربية. لكنهم يستهدفون هوية الشعب الفلسطيني وكرامة أمة الإسلام، ويريدون استغلال ظلامية هذه المرحلة، لكي يستكملوا مشروع التوسع واهمين بأن التاريخ والمستقبل، قد انعقدا لهم، وأن أمة العرب ماتت الى الأبد، وأن الشعوب ستظل راضخة الى يوم القيامة!
غير أن كل هذا التوصيف، يدخل على خط المعنى والأيديولوجيا. أما الذي يدخل على خط السياسة، فإنه يأخذنا الى حديث في مظهر التقاعس العربي والإسلامي الشامل. كأن لا جيوش ولا رايات ولا أنظمة متنافخة ولا موسيقى عسكرية وأناشيد وطنية تنضح بالكبرياء الأجوف، ولا مجتمعات ولا أي عنفوان كامناً في قلب هذه الأمة. وكأن الضراوة التي شهدناها ونشهدها عربياً، عند التمسك بالحكم أو السعي له أو الحيلولة دون فقدانه؛ لا يصح أن تتبدى في حال انتهاك كرامة ومقدسات أمة، بأيدي نفر من شُذاذ الآفاق، الملمومين من كل حدب وصوب. ذلك علماً بأن القطط عندما تتأذى يحق لها أن تموء، على النحو الذي يعادل في السياسة، كراهية المؤذي ومقاطعته وعدم الاعتراف به طرفاً في أي حديث عن الاجتماع الانساني والسلام والكرامة البشرية.
وكأن التفاوض على التسوية، في حاجة الى المزيد من التعقيدات، لكي يطرح أصحاب مشروع الاستيطان الذين رفضوا العملية السلمية منذ البداية، شرط الاعتراف الفلسطيني بأن دولتهم يهودية حصراً، وانها "وطن الشعب اليهودي". فمنطق التاريخ وحقائقه، حتى في العمل السياسي، تحتم ليس رفض اعتراف كهذا وحسب، وإنما الرفض أيضاً لحق قد تزعمه الصهيونية لنفسها، بالوجود على أرضنا قبل أن توجد اسرائيل، ذلك لأن الاعتراف بإسرائيل شيء، والاعتراف بحق لها في الوجود قبل أن توجد، شيء آخر ذو دلالات مختلفة، يدخل على خط الثقافة وحقوق الناس في وطنها وفي ممتلكاتها، وفي صون كرامة شهدائها الذين لم يسقطوا على طريق قضية باطلة. فهم لم يكونوا يقاومون "حقاً" للآخرين بإقامة دولة على أرضهم.
الاعتراف بـ "يهودية الدولة" هو الإقرار الضمني بأن لا حقوق للاجئين، وبأننا كنا نسرق وطناً لأنفسنا ولم نكن ماكثين لألوف السنين على أرض الآباء والأجداد. فإن كان لليهود حضورهم في مرحلة قصيرة من تاريخ بلادنا، فإن الحضور لم يكن أصلاً في الساحل ولا في شمالي فلسطين وجنوبها. أي إن الأراضي التي تحسمها عملية التسوية، بأنها خارج المفاوضات، وبأنها أراضٍ إسرائيلية؛ لم يكن لليهود أي مرور منها أو حضور فيها. ومثلما يلمّح اليهود في سياق السياسة، أن أراضي الدولة الفلسطينية تقع في داخل الأراضي المحتلة في العام 1967 وهي المعفاة في معظمها من التلطي باليهودية، بشفاعة وجود الشعب الفلسطيني على الأرض، وهو وجود أصيل منذ الأزل؛ فإن الأجدر ألا تتلطى الأراضي التي لم تطؤها أقدامهم على الساحل وفي النقب والجليل، باللون الديني الذي يتحدثون عنه. وهذا بالطبع، في قياسات الأمور المجردة، عندما يكون هناك عدل يتوخاه أصحابه الأقوياء باعتبارهم أمة لا شعباً صغيراً تستفرد به قوة عسكرية فائضة، ويساندهم محبون للعدالة، أقوياء ومؤثرون!
نحن اعترفنا بوجود إسرائيل، ونتعاطى في السياسة، توخياً للوصول الى تسوية تضمن للشعب الفلسطيني بسط سيادته على أرض الدولة التي اعترف بها برلمان العالم. وإن لم تمض الأمور، في السياق الذي ارتضيناه على مضض، فليس أصوب سياسياً من العودة الى المربع الأول، لأن هؤلاء الأوغاد الذين يحكمون في إسرائيل لا يفهمون إلا لغة الصراع. نحن الآن، بصدد عربدة بلغت الذروة، يمارسها معتوهون ظلاميون لن يمتلكوا في أي يوم عقلاً، ولن يفهموا في أي يوم، معنى أن يبرموا تسوية وفق محدداتها، على ما تعكسه من فوز للصهيونية، بما لا يحق لها من الأرض. لقد أعمت القوة المعززة بالدعم الأميركي أبصارهم، وبلغ سيل عربدتهم الذروة في "الكنيست"!