لا أستطيع أن أقف عند الإسراء وحده لأتبين مدلوله الديني والروحي والحضاري، بل لا بُدَّ من إضافة اختيار بيت المقدس قبلة أولى للمسلمين، ولا يمس من دلالة هذه الواقعة التعديل الرباني الذي حصل بإعادة المسلمين إلى قبلة يرضونها لاحقاً، كما ارتضوا القبلة الأولى.. فالمعنى الذي تتضمنه ولا تقتصر عليه مسألة توجيه المسلمين إلى بيت المقدس، قد تحقَّق، أعني الربط بالمكان الأكثر كثافة في دلالته على التوحيد الإبراهيمي والإيمان الكبير الجامع لأهل الأديان السماوية التوحيدية، وهذا المسلك يمثل نوعاً من التثبيت للعام أو المشترك، بحيث يترسخ ولا يضره الانتقال إلى الخاص (مكة) الموصول أو غير المفصول عن ذلك العام أو المشترك، على أساس العلاقة البنيوية والتبادلية بين العام التوحيدي والخاص الإسلامي، المتأتية من إعادة التشكيل لعقيدة التوحيد في محطة، كانت هي الأخيرة في تاريخ الوحي والنبوة، على أساس نضج البشرية واكتمال الدين وتمام النعمة به.
والإسراء.. ثم المعراج.. كأنَّه يقول بأنَّ بيت المقدس، باعتبارها ملتقى التوحيد والتوحيديين، على إيقاع إبراهيمي جامع وأبوي حاضن، كأنها هي الممر الإجباري الروحي إلى السماء، وكأنَّ النبي صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم، وهو يعرج إلى السماء مسرى به من مكة إلى بيت المقدس، يمثل خلاصة الإيمان المشترك والتوحيد الجامع، أي يحتضنه ويعترف به ويكمله، ويلقي على عاتق الموحدين الآخرين عبء الحوار والجدال بالحسنى والتراحم والتكامل، على أساس الجامع المعرفي الإلهي (الكتابية) التي لا يمكن لأحد إلغاؤها أو المس بها كجامع، لا في حالات السلم ولا في حالات الصراع والحرب، ما يعني أنَّ العلاقة بين الأديان محفوظة، حتى لو تحول أتباعها إلى أعداء فيما بينهم بسبب المسافات المفتعلة بين أديانهم في صورتها الحقيقية ومقاصدها الإلهية والإنسانية.
إلى ذلك فإنَّ الإسراء والمعراج، أي الانتقال من مكة إلى القدس ومنها إلى السماء، يثبت بيت المقدس جامعاً ويضع مسؤوليتها على الجميع، فإن أخل أحد الأطراف، أي اليهود، بسبب الصهينة، بهذه المسؤولية، كان على المسيحيين والمسلمين أن يتصدوا لها، لأنَّها تعنيهم جميعاً، ولن يجدوا بعدها أو في مستواها مكاناً ثقافياً أو روحياً يعيد تباعدهم إلى تقارب.
وإذا ما كان المسلمون ممنوعين بسبب المعايير المزدوجة والظالمة، من ممارسة كامل دورهم في شأن القدس، فإنَّ بإمكان المسيحيين أن يعوضوا هذا النقص، بل هم ملزمون مسيحياً بالتصدي لقضية القدس، لأنَّها مكانهم الروحي الأهم أو الأوحد.. وهي جزء من فلسطين واقعاً، وفلسطين جزء منها معنىً ودوراً جامعاً. يبقى أنَّ على العرب جميعاً أو المسلمين جميعاً أن يلتفتوا إلى أمر مهم جداً وخطير جداً، وهو الكثافة المسيحية.. والإسلامية في القدس، وهي في تناقص دائم ومريع.. ما يعني التهويد الأعمق من التهويد السياسي.. وهذا يستدعي الشغل على المسألة الاقتصادية والثقافية والعمرانية والدينية، وبشكل مشترك، لتثبيت العرب في القدس، صيانة لهويتها ولدورها الموحد، ودورها الروحي والثقافي الذي لا يعوض إذا ما فقده المسيحيون أو فقدتهم القدس وفلسطين أو فقدوها.. تعويضاً عما خسرناه جميعاً وخسرته القدس وفلسطين جراء قرار المقاطعة الذي كان يجب أن تكون زيارة القدس واغناؤها وعمرانها بالمال العربي والاسلامي استثناء فيه، في حين أن المقاطعة لم تطبق تماماً الا في حق القدس وزوارها الذين كان يمكن أن يصونوها.