كيف يمكن ان تقوم ذاكرة عربية مجدَّدة ومتجددة باستمرار نقطة ارتكازها فلسطين الاكثر كثافة والأبين دلالة (موقعاً وتاريخاً ومصيراً ومساراً).. ذاكرة مفترض فيها ان تكون ام الحلم العربي ومصدر اشتقاقاته، ذاكرة مؤهلة لأن تكون منصة ارشاد للفعل العربي على طريق التحرير والتحرر، وعودة العقل العربي، ثانية، على شرط فلسطين، للاسهام في صياغة اطروحة ثقافية جامعة انسانية تحفظ الاستقطابات المتقابلة وتفكك أو تلطف نظام الثنائيات وترفع التعدد والتنوع إلى مصاف مشروع حضاري عادل؟
كيف يمكن ان تقوم هذه الذاكرة اذا ما بقيت ذاكرة اسلامية محضاً وبامتياز حصري؟ وظل التلوين المسيحي فيها طيفاً أو اضافة غير لازمة الا في حدود الامتاع والمؤانسة للجليس؟ وظل المسيحي عندما يتذكر فلسطين يثير الدهشة والاستغراب كأنه يأتي بغير المتوقع منه ويحمل على المجاملة أو المداهنة!! وظلت المسيحية المشرقية مترددة في تحصين ذاكرة اهلها من الثقوب التي تأتي مع هبات خماسين التغريب أو التغرب ويدلف منها إلى المخزون المسيحي قمع التوراة والتلمود مخلوطاً بالزؤان؟ أليس من وظيفة المسيحية المشرقية، شرط المعنى والدور للاسلامية العربية، أن تعمل على اعادة بناء المسيحية الغربية المقطوعة عن سياقها ومنبتها، على نصاب مسيحي وعلى ذاكرة مسيحية قدسية؟
ليست هذه دعوة إلى «هولوكست» مسيحي، أو مسيحي اسلامي ضد اليهود، وانا اغامر باعلان ميلي الى تفهم –على ريبة ونفور وإدانة - للعملية المعقدة التي انتجت الحركة الصهيونية ومكنتها من ان تصبح اختزالاً قاسياً للجماعة اليهودية أو الجماعات، واقيسها على ضدها الأوروبي الذي عاد فتواطأ معها على مسار واحد، حتى النازية التي أرى انها كانت مطابقة لحالة المانية أو جرمانية وضعها الطموح والطمع والغيرة والاحباط معاً في مُناخ جعلها تعتبر القوة رافعة وحيدة للحضارة والمجد والنفوذ (أحيل هنا على جهود الرئيس محمود عباس المبكرة في متابعة العلاقة التكاملية بين النازية والصهيونية، والى كتاب «الدروب السرية» لبهوشافاط هركابي).. هنا يمكن للوعي العربي المعاصر ان يشتغل على فرضية تحرير اليهود من الصهيونية باعادتهم إلى يهوديتهم التي يمكن ان تسوقهم طوعاً إلى المساحة المشتركة- مساحة التوحيد الابراهيمي- وهذا يستدعي من المسلمين والمسيحيين تصحيحاً في مساحات اشكالية من ذاكرتهم ووجدانهم. ان التعقيد الاعظم الذي اعترض علاقة المسلمين باليهود هو نقضهم لوثيقة المدينة بعد الهجرة اليها، ما دفعوا ثمنه المعروف، ولكن المسلمين عادوا فنسوا وانسوهم، ودخلوا مبكراً مع اليهود والمسيحيين في شراكة حضارية، كان ابرز تجلياتها نموذج الاندلس، وافسحوا في غير مكان وزمان للجميع، حتى المندائيين والمجوس والبراهما، ان يدخلوا في دائرة الثقافة الاسلامية منتجين ومبدعين، متعلمين ومعلمين، رواداً لحقول معرفية شتى ومرتادين، وعندما خرج المسلمون من الاندلس خرج اليهود معهم وتوزعوا على العواصم العربية، من الرباط الى القاهرة ودمشق وبغداد، واسطنبول، مسهمين في ادارتها وحركتها ودورة انتاجها واقتصادها، ولم يحدث المنعطف الحاد في هذا النمط من العلاقة القائمة على التكافؤ التوحيدي، والمعرفي (اهل كتاب) الا عندما دخل الغرب على السياق ليكسره، وفي اللحظة التي تفاقم فيها شعوره بالذنب تجاه اليهود اراد ان يعوض عليهم وان يعطي فسحة لضميره المتعب، فوضعهم في دائرة الذنب الذي عاد فأنتج عقدته التي تعود لتنتجه في آخر صوره في قانا والجليل والصور اليومية في شوارع القدس وازقتها وفي بيت لحم ونابلس ورام الله ليسطروا صفحات ظاهرها سادية مضمونها مازوخية مدمرة للذات والاخر معاً، وللذات في نهاية المطاف دون الاخر. لقد وصلت العقدة عند ماركس- «يهودي وان ألحد» على رأي بن غوريون- إلى حد انه لم ير مجالاً لتحرر اليهودي الا بتحريره من يهوديته, وكانت هذه الوصفة استحالة اخرى من استحالات الماركسية الكثيرة.. اما العلاج الذي يمكن الشغل عليه فهو تحرير اليهود من الصهيونية باعاداتهم إلى الابراهيمية، من القطيعة إلى الحوار.
والا فأن الخوف الحقيقي عليهم كما هو منهم، رغم كل مظاهر القوة البادية والتي تختزن ضعفاً بالغاً، وهي نسبية على كل حال وغير مطلقة.