تم إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وميليشيات حركة حماس، بضمانات الوسطاء القطري والمصري وإدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي هدد من خلال أسلوب استعراضي يُنذر بشكل السياسة الأميركية طوال السنوات الأربع القادمة.

بين البنود المعلنة وغير المعلنة؛ خلا الاتفاق تمامًا من أيّ فقرات سياسية متجانسة تعالج قضايا قطاعٍ أمسى ركامًا بلا بنية تحتية وبلا بيوت تؤوي أكثر من مليون نازح، ينتظرون ملف إعادة الإعمار الذي لن ينفّذ طالما بقي اليمين الإسرائيلي وحماس يتحكمان في المشهد السياسي لقطاع غزة.

بعيدًا عن الاتفاق الذي لم يدفع بالأساس للحفاظ على الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني في غزة، وبعيدًا عن هروب الوسطاء به إلى الأمام بتأجيل مناقشة بعض جوانبه الضبابية في الغرف المغلقة خوفًا من تعطيله لأسبابٍ أصبحت جلية كجزء من دائرة ارتدادات الصراع؛ الذي هدم تحالفات إقليمية، وأقام واقعًا جديدًا في المنطقة، قصور الاتفاق عن معالجة تعقيدات الوضع داخل القطاع، خاصة الأمنية في ظل انتشار الفقر والعوز واتساع نطاق الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الصحية، يضعنا أمام تساؤلات عديدة عن سطحية فكر المفاوض الحمساوي أو يكشف حقيقة الضغوط التي تعرضت لها قيادات الحركة من أجل قبول شروط وقف الحرب وانسحاب قوات الاحتلال وتمركزها داخل مناطق محددة في القطاع.

الاتفاق ينمّي اقتتالاً أهليًا في القطاع زُرعت بذوره بعناية على مدار شهور الحرب من خلال تنامي الفوضى في غزة، وهو مخطط إسرائيلي سعت إليه حكومة بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب بإنتاج بيئة طاردة للفلسطينيين وتوظيفها في إشعال نيران اقتتال بين شرائح ومكونات المجتمع الغزي، خاصة في ظل غياب رؤية سياسية واقتصادية واقعية لليوم الثاني للحرب، والذي أصبح ضمنيًا اليوم التالي لتنفيذ مراحل وقف إطلاق النار الثانية والثالثة، خاصةً وأن هناك جزئية هامة لا يمكن التغافل عنها، وهي استمرار تقييد وكالة الأونروا في ممارسة مهامها، وتجفيف منابع تمويلها، واستبدالها بشركات أمنية وخدماتية إسرائيلية وأميركية.

الحقيقة، أن إسرائيل بنيامين نتنياهو؛ سعت من خلال هذا الاتفاق للمحافظة على قوة ضئيلة من عناصر حماس التنظيمية والأمنية لاستمرار سياسة الهروب من استحقاقات المرحلة المقبلة، فنتنياهو يريد إعادة مقاربته السياسية الخاصة في دعم بقايا حكم حماس (المتهالك) لإدامة الانقسام الفلسطيني، كما فعل طيلة السنوات السابقة، لمكافحة الجهد الدبلوماسي الذي تقوده المملكة العربية السعودية لتثبيت حل الدولتين كضمان لتمويل إعادة إعمار غزة، وجلب حقوق الفلسطينيين المسلوبة؛ كمفتاح أساسي لاستقرار الشرق الأوسط.

في مقالٍ نشرته في الثالث من شهر يونيو عام 2024، في صحيفة "العرب" اللندنية، بعنوان: "الاقتتال الداخلي.. مصير غزة في اليوم التالي"، ذكرت بالتفصيل؛ أن حماس عمدت في حساباتها ما قبل السابع من أكتوبر وما تلاه إلى عدم الزج بكامل قواتها وكتائبها في أتون الحرب، تحضيرًا لليوم التالي؛ فالحركة التي إنهار ما يقارب ثلثي قواها، حسب تقارير استخباراتية، سارعت لتجنيد شباب فلسطيني، إدراكًا منها بأن انتصارها الوحيد سيكون في إبقاء مظاهر سلطتها في القطاع، مظاهر سعت الحركة لتكريسها في يوم وقف إطلاق النار الأول في إعادة انتشار عناصرها الشرطية، واستحواذها على كميات من المساعدات الإنسانية وتوزيعها على فئات محسوبة عليها لإظهار الدعم والتأييد لها من خلال مشاهد مسرحية التجمهر حول عناصرها لحظة تسليم الرهائن الإسرائيليين.

اليوم الصورة مختلفة بعد 17 عامًا من حكم حماس الدكتاتوري. والحرب التي بدأت يوم السابع من أكتوبر المشؤوم، حيث ما يسمّى الجبهة الداخلية للقطاع منهارة تمامًا، والسائد حالات الاحتقان والسخط المتنامي، التي حتمًا ستنفجر على شكل موجات عصيان تتخذ طابع العنف في وجه حماس وكتائبها وعناصرها وأنصارها، فالدماء الفلسطينية المهدورة أضحت بلا ثمن سياسي حقيقي لم يترجم عبر اتفاق حقيقي، اتفاق سعت به حماس في المقام الأول لحماية بقاياها التنظيمية على حساب معاناة الشعب الفلسطيني في غزة.

مؤشرات اقتتال أهلي داخلي في القطاع باتت واضحة وملموسة، وحماس تدرك ذلك وتستشعره وتقرأه بعناية، حيث ستوظفه لفرض قوتها المسلحة لتثبيت وإبقاء معادلات حكمها تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال، التي ستدير مسارات القطاع عبر ترويض حماس وفقًا لمصالحها وأهدافها الهادفة مجددًا إلى استمرار دوامة الانقسام الفلسطيني للهروب من استحقاقات سياسية أصبحت ملحة لاستقرار المنطقة.