لم تهن عزيمة الشعب الفلسطيني حتى في أحلك لحظات الإبادة الجماعية وهول الموت والدمار والنكبات والكوارث المتعاقبة على مدار تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولم يستسلم لعتمة المستعمر الإسرائيلي النازي، ولم ينحنِ لإملاءاته وقهره العنصري الإجرامي، ولا لعمليات التطهير العرقي سابقًا وحتى اللحظة، وظل يبحث عن اختطاف أي بارقة أمل كي يفرح، ويفتح مطلق كوة صغيرة للأمل ومواصلة الحياة والكفاح حتى تحقيق أهدافه الوطنية، وحافظ على موروثه الحضاري بإقامة الأفراح والليالي الملاح في أية مناسبة وطنية سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، غنى ورقص وهتف وعلا الصوت كلما استطاع لذلك سبيلا.
وقرأت بعض تعليقات ومواقف للعديد من أبناء الشعب والأشقاء العرب، الذين عتبوا وتساءلوا كيف يتمكن الفلسطينيون من الفرح، رغم الموت والإبادة الجماعية، التي أودت بنحو 250 ألف شهيد وجريح، وليس 170 ألفًا فقط في قطاع غزة على مدار 471 يومًا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى 19 كانون الثاني/يناير الحالي (2025)، كما أوردت بعض التقارير الفلسطينية وغيرها، وفي ظل الدمار الهائل والكارثي وغير المسبوق في تاريخ الصراع مع دولة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وتناسى أولئك، أن الموت المعلن والدمار والنكبة العميقة والأوسع لم يفت في عضد أبناء الشعب الفلسطيني، ولم تثنيه عن اقتناص لحظة الإعلان عن اتفاق الهدن الثلاث كي يفرح لتوقف إلقاء القنابل والصواريخ ولو مؤقتًا، لا بل إنهم واصلوا الزواج تحت القصف الإبادي وفي خيام النزوح التي لم تحمهم من برد الشتاء ولا حرارة الصيف، ونفس الشيء في الضفة الغربية والقدس العاصمة الأبدية، رغم الاجتياحات والاعتقالات والإبادة بأشكال وأساليب متعددة، ومع ذلك أقاموا أفراحهم واحتفوا بمناسباتهم الوطنية والاجتماعية بالطرق الملائمة للواقع، وإن كان لي من تحفظ، فهو انحصر على المبالغة لدى البعض في أفراحهم، وتجهالهم الظروف الذاتية والموضوعية، وكتبت عن تلك الطقوس الفائضة عن الحاجة، وغير المحببة.
وبالتلازم مع ما تقدم، فإن حروب حكومة الإبادة الجماعية الإسرائيلية لم تقتصر على القصف بأحدث القنابل والصواريخ متعددة الأوزان، والتجويع والحرمان من الماء والكهرباء والأمراض ونشر الأوبئة والتلوث البيئي والنزوح والمأوى غير المقبول، لا بل واصلت حربها حتى ضد أبسط معايير الحياة، بالحرمان من الفرح بالإفراج عن أسرى الحرية، وطافت قوات الجيش والشرطة وحرس الحدود على العائلات المقدسية عشية الإفراج عن أول دفعة من الرهائن الإسرائيليين وأسرى الحرية الفلسطينيين الأحد الموافق 19 كانون الثاني/يناير الحالي، وعشية الإفراج عن الدفعة الثانية أمس السبت الموافق 25 من ذات الشهر، حيث قامت تلك القوات النازية باقتحام منازل عائلات الأسرى المفرج عنهم من قرى وبلدات محافظة رام الله والبيرة: سلواد، وعين قينيا، وبير زيت، وقراوة بني زيد، وبيت لقيا، والمغير، وهددتهم شفهيًا من إقامة تجمعات أو أية مظاهر احتفال.
وهددت قوات الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة أهالي الأسرى المحررين بعظائم الأمور في حال أقامت الخيام لاستقبال المهنئين بالإفراج عن أبنائهم، أو لجأت لآية مظاهر من الفرح للمفرج عنهم، رغم أن بعضهم قضى زمنًا فاق العشرين عامًا في أقبية التعذيب والسادية الإسرائيلية، وللأسف تضمن اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في غزة، باتخاذ إجراءات عقابية بحقهم في حال أقاموا فعاليات احتفالية بتحرر أبنائهم، وينطبق على الإسرائيليين المثل القائل "إن لم تستح أفعل ما شئت".
هذه السياسة العنصرية الإجرامية تعكس وحشية ونازية إسرائيلية استثنائية، وتكشف عن وجه دولة الإبادة الجماعية الإسرائيلية أمام العالم، في الوقت الذي أقامت ونظمت الدولة والحكومة وعائلات الرهائن الإسرائيليين الأفراح بمناسبة الإفراج عن الرهينات الإسرائيليات المفرج عنهن، الأمر الذي يتطلب من العالم وخاصة في دول الغرب الأوروبي والأميركي مراجعة مواقفهم من الدعم المطلق واللا مشروط لدولة إسرائيل اللقيطة والخارجة على القانون، والكف عن إغماض العيون عن جرائم حربها، وعنصريتها، التي تفقأ العيون، واتخاذ الإجراءات الرادعة، وفرض العقوبات القانونية والسياسية والاقتصادية لوقف انتهاكاتها العنصرية المتناقضة مع أبسط معايير القانون الإنساني الدولي، وعلى الهيئات الدولية أيضًا تشريع قرارات أممية جديدة ضد دولة الأبارتهايد والنازية الإسرائيلية. وفي ذات الوقت، فضح القوة الفلسطينية المفاوضة "حماس" لموافقتها على ما ورد في الاتفاق المهين، التي اعتبرت ما تم "نصراً"، متجاهلة الإبادة ووحشيتها، وحجم الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الهائل، الذين اعتبرهم قائد ما تسمى كتيبة شمال بيت حانون بعض الضحايا، متساوقًا مع قائده مسؤول المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج، خالد مشعل، الذي اعتبر مئات الآلاف من الضحايا "خسائر تكتيكية". ومع ذلك، سيبقى الشعب الفلسطيني لصيقًا بالفرح، ولن يبقى أسيرًا للحزن والفاجعة، وسينهض كما العنقاء من تحت الرماد، مواصلاً درب الحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها