في كل حديث حول ما يُسمى "انهاء الانقسام" لا تلمح ثمة اشارة لموضوع المال، الذي هو الحاضر الأول والأخير، بالنسبة لكل مجتمع ولكل كيانية سياسية. فلدى الطرفين، موازنتان، واحدة للحكومة المعترف بها اقليمياً ودولياً، والأخرى للحكومة التي لم تحظ على صعيد الاعتراف، بما حظيت به جمهورية الأتراك في قبرص، وهي تلك التي يسموّنها "مُقالة". الاولى، في مشروعها للعام 2014 بلغت (بالدولار) أربعة مليارات ومئتين وستة عشر مليوناً، منها عجز مفترض يصل الى نحو ثلثها. والثانية الحمساوية، بلغت 784 مليون دولار (بلا كسور) قُدر العجز في مشروعها بنحو أربعة أضعاف المتوافر من الايرادات، وتحديداً قدرت ايراداتها المتاحة بـ 195 مليون دولار وحسب!
ولئن كانت الموازنة الأولى، تمد انفاقها الى "ولاية" الموازنة الثانية على صعيد بند الرواتب، بينما تستجمع ايراداتها من مقاصة (مخصوم منها جزء يتعلق بغزة قياساً على معدلات سابقة) ومن المساعدات الدولية المقدمة للمجتمع الفلسطيني ولا يُسمح لفصيل بالاستحواذ عليها؛ فان الموازنة الثانية الحمساوية، التي كان القائمون عليها يستولون بالقوة على المساعدات المقدمة للمجتمع الفلسطيني واختلطت عندهم الجباية للحكومة بالجباية للفصيل، باتت تواجه الآن عجزاً بنحو ثلاثة أرباعها. لكن هذا العجز المروّع، يُرسم كأمر يتعلق بحكومة غزة لا بالفصيل الذي يحكم. فان تدفقت المساعدات واشتد أوار الجباية حتى اعتصار المجتمع، لا يتبين المرء الخيط الرقيق الفاصل بين الحكومة و"حماس". أما في حال شُح المساعدات النقدية، ومعها المساعدات العينية التي كانت تباع في الأسواق وتشكل مصدراً لايرادات أخرى؛ فعندئذٍ يصبح لـ "حماس" حسبتها المختلفة عن حسبة الحكومة، من حيث يفترض أنها تصرف على الطبابة والتعليم وبعض الخدمات الأخرى. ذلك بمعنى، أن العجز بنسبة الثلاثة أرباع، يحال الى البنود المتعلقة بالناس، على أن يغطي المبلغ المتوافر، حاجات الشرطة والأمن، من بند الرواتب، أو يُصرف خلسة في مواضعه اللصيقة بالحركة وعصبيتها المهيمنة. وهنا، يصبح أمر الخدمات الملحة، في حال انعدام المدد من وزارات الحكومة في رام الله، متردياً الى حال البؤس والفشل!
هنا ينهض السؤال: كيف تتصالح الموازنتان؟! ففي مراحل انتعاش "حماس" وزهوّها بما تظنه التمكين الأبدي المستغني عن الكل الفلسطيني؛ اقيمت مهرجانات للأعطيات الوظيفة ودرجاتها العالية، على النحو الذي جعل فاتورة الرواتب 50% من الموازنة. وهي في منظورنا، رواتب قوة مسلحة بات أهم ما تفعله الآن هو الامساك بخناق المجتمع، بفصائله الوطنية وبـ "مقاومته" الراغبة في المقاومة وبمنظماته الأهلية.
ربما كانت التقديرات في بداية الانقلاب الحمساوي، أن ثنائية الحكم والمقاومة، ستكون جلابة للمقدرات الاغراقية، ولن يعكر الصفو شيء ولن تحبط العوامل والوقائع الاحتلالية شيئاً، وأن لديهم غزة بسوقها وأنفاقها وبلدياتها وضرائبها ومياهها وكهربائها. ومع الاغراق، ارتفعت مستويات الاستهلاك وتوحشت النزعة الخلاصية لدى الشريحة المتنفذة التي أراد بعضها ان يقبر فقراً أو يستزيد من السعة. سيارات ذات دفع بالعجلات الأربع وغيرها، ومعظمها جرى ابتياعها وايصالها عبر الأنفاق، وعمائر وأطيان اقتطعت من الملكية الأميرية العامة. ولم تكن تلك النزعة، تنم عن زُهد يضاهي زهد الأولين من القادة الفتحاويين، عندما كان أبو عمار وخليل الوزير "أبو جهاد" وأبو يوسف النجار، وأبو صبري وأبو علي اياد وغيرهم من كبار تاريخنا، يجوبون الأردن وسوريا، بلا حراسات، بسيارة خنفساء من نوع "فولكس فاجن" وهم يبنون القوة المسلحة للثورة الفلسطينية، ويبنون مجداً وطنياً، وان توقف واحدهم في موقع للشباب، تكون علب السردين الواردة كمساعدة من المغرب، سيدة المائدة!
ما علينا. المهم الآن هو الاجابة عن السؤال: كيف تتصالح الموازنتان؟ كلام كثير يُقال حول التصالح واعادة اللُحمة بشكل عام. وللأسف ليس من بين هذا الكلام الكثير، ما يجيب عن أسئلة المصالحة بين الموازنتين. فهل المصالحة تعني أن تحمل الحكومة الوفاقية أعباء ما ترتب على مهرجانات الأعطيات للدرجات والوظائف والتحشيد الأمني الحمساوي؟ هل تمنح حكومة تسيير الأعمال في رام الله، لموازنة الحكومة المُقالة ثلاثة أرباع نفقاتها وهي تزيد عن النصف مليار دولار، ثم تجمع الموازنتين وتحتفل بالوئام؟ وكيف تفعل على الرغم من أن عجزها المقدّر يزيد عن ثلاثة أرباع المليار دولار؟
في كل أحاديث المصالحة، لم توضع المقاربات والافتراضات، لمواجهة معضلة كهذه، ولا حتى وضعت افتراضات جزئية، كأن تعود الحكومة الوفاقية الى صرف رواتب العاملين في السلطة الوطنية، التي قطعت بعد أن اتضح انتماؤهم لحركة "حماس" وتأييدهم للانقلاب.
نحن هنا، لا نضع العصا في دولاب المصالحة الغارز حتى الآن في رمال الأسئلة والتوقعات والسيناريوهات، ولا تفيده البشائر الساذجة. ليس أعز من الوئام الوطني. فهو أمنية، لكن الأمنيات لها استحقاقها. والاستحقاق هنا، وبمفردات المال، أن تتخلى "حماس" عن فكرة تحميل عبئها الذي صنعته بنفسها، لسلطة تكابد أعباءها.
ذات يوم، اقترب مني صديق واهم ليهمس في اذني: ربما خلال يومين أو ثلاثة "أميل" عليك وأطلب مبلغاً. أجبته هامساً بأريحية: ان فعلتها ومِلت، سأقع أنا وأنت. فليبق كل منا واقفاً، وان كان ذلك مع شيء من ميلان الحال!