"روح يما.. الله يسهّل عليك"
"روح يابا.. الله يسهّل عليك"
"روح يا جارنا.. الله يسهّل عليك"
بلى، لكأنّ الطريق إلى المقبرة بات محتشدًا بعقبات الدنيا كلها، وأنّ الوصول إليها بات غاية أو حلماً، أو خلاصاً، بعد أن كان الخروج من تحت الأسقف والجدران هو الغاية والحلم والخلاص حتى لو كان من هو تحت الركام جريحاً أو ميتاً، صغيراً أو كبيراً، امرأة أو رجلاً، شقيقًا أو جارًا.
الجميع يريد الغاية والحلم والخلاص من هذه الشرور الإسرائيلية التي عمّت حتى طالت كل شيء، فعمّ البكاء والنشيج حتى ليحسب المرء أنّ الكل يبكون الكلّ، وأنّ الفرجة شملت من يرى ومن لا يرى، وأنّ الطريق إلى المقابر تعددت وتكاثرت، وبات الواصل إليها إما هو شهيد أو شهيد، وإما هو حامل أو محمول، وإما هو الباكي بدموع أو بلا دموع، الجميع، في زمن المذبحة والإبادة، يبكون، والكائنات جميعاً تبكي، البيوت المقصوفة بالطائرات والصواريخ والمدافع تبكي، والمدارس والمشافي والأسواق تبكي، والناس يبكون ليس عجزاً، بل لقلة الحيلة، ووحشة الاستفراد، وسطوة القاتل الإسرائيلي الذي توحّش حتى صار بلا قلب، بلا ضمير، بلا سماء، بلا رادع، قاتل يقرأ سيرة يوشع بن نون..ويعيد.
ها هم الإسرائيليون يبطشون بالأطفال والنساء والشيوخ لا لشيء، فقط لأنهم فلسطينيون، لقد قال لهم أصحاب القوة الباطشة في الغرب: افعلوا ما ترونه ضرورياً، واستغلوا هذه الفرصة المتاحة أمامكم، فالعالم أعمى أطرش أخرس، مكتوف اليدين، لن يفعل شيئاً لوقف أنهار الدم الجارية من رفح إلى جباليا، ولا لتكاثر قرى الحزن، وانتشار تلال الأسى، وصعود الأدعية والرجاءات إلى السماء، العالم لن يفعل شيئاً سوى الفرجة التي اعتادها قديماً حين قتل الآلاف من أهل فيتنام، وأبناء الهند وجنوب إفريقيا في البيوت، والمدارس، والمشافي، والطرقات، وحين حدثت المجازر والمذابح وعمت في دير ياسين، وكفر قاسم، والطنطورة، والدوايمة، وقبية، والحسينية، وكراد البقارة، وعيلبون، ونحالين، وجسر بنات يعقوب، والخليل، والقدس، ومخيم جنين، ومخيم جباليا، ومخيم الدهيشة، ونور شمس، وشعفاط، والعروب.
هذا العالم، أعني الغرب الاستعماري، الذي بات بلا قلب، بلا ضمير، بلا قوانين، بلا آداب وفنون، بلا مشاعر. تفرج على المذابح في البلقان ومنها مذبحة سربرنيتشا أربع سنوات كوامل، وتفرج على موت مليون ونصف مليون طفل في العراق، وتفرّج على اغتصاب الرجال في سجن أبو غريب، مثلما هو يتفرج على اغتصاب الرجال في معسكر الاعتقال الإسرائيلي الصحراوي في (سديه تيمان)، وتفرج على الفيلم الدموي الرهيب في أفغانستان، مثلما هو يتفرج الآن، على الفيلم الدموي الطويل الرهيب في قطاع غزة، والضفة الفلسطينية، والقدس، وأريحا، منذ 76 سنة وحتى يوم الناس هذا.
ها هم الإسرائيليون، ومنذ سنة أو أزيد، يقتلون الفلسطينيين ببراعة مدهشة، وفي جميع المناطق الفلسطينية التي حولوها إلى معسكرات تدريب على القتل السريع جداً، القتل الذي يصورونه بكاميرات هواتفهم المحمولة، ويصورون تدمير البيوت قبل انهيارها، ويصورونها بعد انهيارها، ويهدون الصور إلى أبنائهم وزوجاتهم في أعياد ميلادهم، إنهم يسجلون ويصورون لحظات بطشهم ودمويتهم، ولحظات تحولهم إلى وحوش تعيش على الدم ومن أجله، وما من رادع لهم سوى زواجر أهل الغرب الاستعماري، أهل القوة التي تحلّق في فضاء العماء واللامبالاة والرضا عما يفعلون، إنهم يقولون بصفاقة محتشدة بالكذب الباهت المراوغ: (لابد من وقف إطلاق النار، إننا نبحث عن سبيل لوقف إطلاق النار، نعتقد أنّ وقف إطلاق النار بات ضرورياً، نحاول بكل الوسائل أن نجد مخرجاً يفضي إلى وقف إطلاق النار، ما يحدث في فلسطين كارثي وأكثر لذلك نتشاور من أجل وقف إطلاق النار)، ويمر الزمن الدموي، الزمن الميت، الزمن العار، الزمن الموحش، الزمن الثقيل، الزمن المر. شهراً وراء شهر، ومذبحة وراء مذبحة، وبكاء يطرده بكاء، ولا مبالاة تلدها لا مبالاة أكثر ظلمة وعماء وتجاهلاً.
ها هي ثقافة الإسرائيليين تتجلى جهيرة أمام العالم بفتكها بالفلسطينيين منذ 76 سنة، فتكاً بالناس، والقرى، والمدن، والمخيمات، والسجون، وشلاً لكل وجوه الحياة والعمران، وطياً للتاريخ، والراهن، والمستقبل.
ها هي ثقافة الإسرائيليين الولود لكل صور الموت والإماتة، ولكل أشكال الحروب وأنواعها: حرب الطائرات، والمدافع، والدبابات والتهجير والتشريد، والتجويع والتعطيش، وحرب الأدوية، والإخافة، والترهيب، والاعتقال، وحرب سرقة الاعضاء البشرية، والتراث، وإغلاق المدارس والجامعات، وحرب المعابر والحواجز.
وكل هذا من أجل إبادة السكان، ومحو التاريخ، وتغيير هوية المكان، وقتل الكبرياء، وطي الكرامة، لكن كل هذا، وهو أليم، لن يجدي، لأن من رأى جده وأباه وإخوته يقتلون، وتفعل بهم الشائنات كيف ينسى؟.
الذاكرة الفلسطينية على اختلاف وجوهها هي، ومنذ 76 سنة، هي كتاب الفلسطينيين الذي يقرؤون فيه ما هو واجب عليهم أن يفعلوه من أجل أن تعود الحقول زاهية بقمحها وورودها وأشجار رمانها وخروبها وجميزها أيضاً، وأن يعود نشيد الأبناء في مدارسهم صادحاً بالعزة الآتم، منادياً بالجسارة الضافية: موطني، موطني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها