موعد يتجدد كل عام منذ عشرات ومئات القرون وربما أكثر من ذلك بكثير، هذا هو حال موسم الزيتون في أرض التين والزيتون وموطن الأنبياء ورسالات السماء ومواعيد الأرض، موسم كان وما زال جزءًا من موروث الهوية والتقاليد وطقوس حب الأرض وما تنبته من خير وعطاء، إنه موسم كل الناس من كل الأعمار والفئات، وهو جسر التواصل بين جهات البلاد الأربع، هو شقيق التين الذي أقسم به رب العالمين.

وموسم هذا العام ليس كمثله موسم ولا بلونه أيام وأحداث، إنه عام لموسم مختلف بكل المقاييس، عام تجمعت فيه معاناة شعب تكفي سكان العالم، وعام حمل من القسوة ما تتكسر تحتها جبال الصوان، ولكن على هذه الأرض تبقى الحياة أقوى من كل موجات القسوة، تبقى جذور الحق والأمل عميقة وعصية على الانكسار.

تشرين الأول شهر اللقاء بزيتون فلسطين، جذور تعود لمئات من السنين مضت منذ كانت أولى سنوات قطاف الزيتون ورائحة زيتها الأخضر، وعيون ترقبها منذ قبل أيام الرومان حينما حطت أقدامهم على هذه الأرض، فزيتون بلادنا ليس مجرد نبات يثمر كل عام أو كل عامين، وليست مجرد نبتة أحسنت أرض فلسطين استقبالها واحتضانها رغم ويلات الزمان وحروب الإنسان، إنها رمز للصمود والتحدي وفلسطينية الأرض منذ مئات السنين، إنها شهادة خالدة على رؤوس الجبال بأن اليد الفلسطينية عمّرت وما زالت تبني وتحيي تلك الجبال لتبقى خضراء كما ورثها الأجداد قبل آلاف السنين ولتستمر بعد ذلك كمقصد الطامعين والعاشقين، فرغم كل الصعاب كل يوم تولد شجرة صمود جديدة بمجرد تدافع عشاق هذه الشجرة لمروج فلسطين قبل وخلال وبعد موسم قطاف الزيتون، فهذه حكاية عشق وخلود لموسم قطاف الزيتون في فلسطين، إرث من أجيال مضت، وأمانة لأجيال قادمة، تموت الأيام بمن فيها ومن عليها تباعًا وتبقى أشجار الزيتون صامدة تؤرخ للقادم من أجيال، فالزيتونة باقية ما بقيت هذه الأرض، فسلام عليك زيتونة فلسطين رمزًا للعطاء وعنوانًا للصمود، فثمارها نور الحياة وزيتها هوية رغم قساوة الايام.

قبل أيام انطلقت في أكثر من بلدة ومدينة مجموعات من المزارعين نحو حقولهم، لتبدأ مرحلة تبدو أشد خطورة من كل المواسم السابقة، لكن هذه هي كيمياء الحالة الفلسطينية قرون وعقود، لا يكاد يبزغ أمل بفرج وفجر قريب حتى تنقلب الدنيا رأسًا على عقب وكأنه ممنوع على هذه البقعة من العالم التمتع بنعمة الاستقرار كباقي بقاع العالم.

كم هي مميزة وخالدة طقوس وحكايات موسم الزيتون الفلسطيني، وكم هي راسخة علاقة الإنسان بتلك الأرض، صورة تكشف اشتباك جذور الزيتون وجذور المزارعين، تمامًا وكانّها تجسيد للأرض نفسها، تتجدد حياتها من كل عام مع عودة الإنسان إلى شجرة العطاء والصمود، وإحياء موسم العونات والإعمار وإعادة الحياة لعلاقة الفلاح والمزارع والموظف والطالب مع تراب الأرض الغالية، موسم الصغار قبل الكبار، موسم يعيد للحياة في جبال فلسطين روحها ورائحة تراثها العتيق وألوانها التي تزخر بالحياة والعطاء.

من عام إلى عام تستمر وتتجدد أشجار الزيتون بعطاء وخير جديد رغم محاولات استهدافها بالاقتلاع والتكسير والتجفيف من قبل اعتداءات المستوطنين، كما تتجدد رغم محاولات عزلها عن أهلها بقرارات المنع الاسرائيلية المجحفة وإخطارات التهديد والحصار والمنع من الوصول إليها، مخاطر كبيرة تحيط بالمزارع الفلسطيني قبل وخلال وصوله إلى حقول الزيتون، وللأسف فإن حجم المخاطر قد تضاعفت عشرات وربما مئات المرات هذا العام، مخاطر تتطلب من الجهات الدولية المعنية بحقوق البشر والحجر والشجر التدخل لحماية أصحاب الحق من مظاهر الخطر والتهديد.

رغم ذلك يستمر الإصرار والعزم على إحياء موسم قطف الزيتون، فهو بوابة خير وبركة، وهو عنوان للمائدة الفلسطينية في كل مكان، وهو رمز تاريخي يستحق تعالي الأصوات التي تكسر عتمة الليل مع طلوع الفجر في كل صباح، حاملةً إصرارها وأملها بخطى تسابق الزمن نحو تلك الحقول، لتزهو بأصوات نسائها وأطفالها حقول وجبال فلسطين، فرغم الألم والخوف والمعاناة تنطلق صيحات المزارعين وأصوات الأطفال والشباب من كل الأعمار وهم يتحلقون حول أشجار الزيتون، ويصدح صوت مزارع وصل التسعين من العمر ببيت من العتابا الفلسطينية يتردد صداه بين الأودية والجبال وتتراقص على أنغامه حبات وأوراق الزيتون، هكذا يكون طعم الفرح حينما تمتزج رائحة الزيتون وأصوات المزارعين، ومنها تولد قصص البطولة ويتشكل التراث وتروى قصص الأجداد ليتذكرها الأحفاد.

موسم الزيتون ليس مجرد تجميع لحبات الزيتون في بضعة أيام، إنه موسم وطني بامتياز بكل ما تحمل الكلمة من معنى، موسم الدفاع عن حياة الزيتون وهوية الإنسان، موسم توثيق وتثبيت حقوق تاريخيّة تعكسها ثقافة وتقاليد رسّختها الاف الدورات من موسم الزيت والزيتون وطور سنين.

التمسك بالزيت والزيتون هو الوجه الآخر للتمسك بهوية الأرض والإنسان، وقيمة تاريخيّة خلقها موسم الزيتون، تتمثل في التعاضد والتكاتف لمواجهة المخاطر التي صاحبت موسم القطاف، ولعل أبرزها ظاهرة "العونة"، حملة يقوم القادرون فيها على مساعدة وإعانة المتأخرين في قطف ثمار الزيتون، والتي لم تقتصر على مجموعات المزارعين من البلدة نفسها، بل وصلت لتشارك البلدات المتقاربة، لاحقاً باتت من أنشطة الموسسات والجامعات الفلسطينية، باعتبارها نموذجاً لترسيخ رمزية الشجرة والموسم وقيمة هذا المزارع الصامد على أرضه رغم كل الظروف.

إذا كانت المعونة سلوكًا اجتماعيًّا عفويًّا بين الناس، فنحن هذه المواسم في أمس الحاجة لعونات دون شروط، عونات ليس لجمع حبات الزيتون من أشجار تزدان بها الحقول والوديان، بل عونات يعلو بها صوت التمسك بالهوية والأرض، وكما كان اليوم الأخير من الموسم يشهد ما يشبه الفرح الشعبي في ماضي الأزمان والمواسم، هذا العام يدعونا جميعًا من كافة الجهات والمؤسسات المعنية بوضع موسم الزيتون على رأس استراتيجيتنا الوطنية لتنمية قطاع الزراعة، فشجرة الزيتون ثروة حقيقية، ورعايتها والحفاظ عليها يعززان من صمودنا وتحافظ على هوية الأرض والإنسان، فإذا ذهبت شجرة الزيتون ذهب الإنسان وضاعت الأرض، لأن زيتها هويتنا.