بقلم: إسراء غوراني
وأخيرًا علا صوت الباعة المتجولين في مركز مدينة جنين، وبدأ التجار يتوافدون على محلاتهم، بعد عشرة أيام لم يُسمع فيها سوى صوت آليات الاحتلال وأزيز رصاصه، لكن حال المدينة التي تعتاش أساسًا من التجارة تنبئ بواقع صعب وقادم أصعب.
بينما تعمل جرافات وزارة الأشغال والبلدية بشكل حثيث على إعادة ترميم وإصلاح الأضرار الكبيرة التي لحقت بمركز المدينة ومربعها التجاري، المتمثل في منطقة دوار السينما والشوارع المحيطة به، يعود أصحاب المحلات إلى سوقهم، منهم من يحاول إزاحة ما أمكن من ركام، أو يحاول تدارك ما تبقّى من محله بعد أن طالته آليات الاحتلال، ومنهم من يتفقد بضاعته ويحصي التالف منها.
عند دوار السينما، يقف الشاب نور جلامنة في "كشك" لبيع القهوة لصديقه، بعد أن شرعا بتقاسم العمل فيه مع انسحاب قوات الاحتلال من المدينة، عقب تعرض الكشك الخاص به لتجريف وتدمير من الاحتلال.
جواد السعدي وهو صاحب أحد المخابز الكبيرة وسط مدينة جنين، يقول: أمضيت يومًا كاملاً في التخلص من التالف من المنتجات الغذائية والمخبوزات التي فسدت جراء الإغلاق مدة عشرة أيام، مشيرًا إلى أن خسارته الأولية من الإغلاق والعدوان تقدر بعشرة آلاف شيقل.
يضيف: "هذه الخسائر تزيد أعباءنا وخسائرنا المتراكمة جراء الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة أساسًا، والتي تتصاعد في حدتها منذ عامين وأكثر".
في الشارع المقابل يجلس أبو رامي، الذي يملك محلاً لبيع الأثاث الخشبي، منذ الوهلة الأولى يظهر حجم التدمير الكبير الذي لحق بهذا المحل، فواجهته الأمامية تعرضت لهدم كامل، فضلاً عن الأضرار في المقتنيات، فيما لحق الضرر ذاته بمحلين ملاصقين له.
أبو رامي الذي يملك هذا المحل منذ سبعينيات القرن الماضي بعد أن ورثه عن والده، يؤكد أن التجار في جنين خلال العامين الأخيرين كابدوا ظروفًا في غاية الصعوبة، فالمدينة تعرضت لاقتحامات كثيرة، "لكن العدوان الأخير بشراسته وبحجم الخسائر والدمار اللذين تركهما يُذكّرنا بالاجتياح الأصعب عام 2002".
يتفاوت حجم الخسائر بين تاجر وآخر في جنين، لكن المؤكد أن الجميع هنا تكبدوا خسائر كبيرة، ولا يعرفون كم يحتاجون من الزمن ليتعافوا من تبعاتها، فهذه الأضرار طالت الجميع، من أصحاب البسطات والأكشاك إلى كبار التجار وأصحاب المؤسسات.
متعرجًا بين طرق المدينة وشوارعها التي باتت وعرة، يقود أبو محمد مركبته، وهو سائق سيارة أجرة منذ سنوات طويلة.
يقول أبو محمد: "كلنا في جنين خسرنا كثيرًا خلال اقتحام المدينة والمخيم وحصارهما"، مضيفًا: "هذه أول مرة منذ مدة طويلة أتوقف بشكل كامل عن العمل لعشرة أيام متواصلة".
وفي هذا السياق، يشير محمد كميل من غرفة تجارة وصناعة جنين، إلى أن حجم الأضرار والخسائر التي لحقت بالمدينة خلال العدوان الأخير كان الأصعب والأسوأ منذ مدة طويلة.
وتعددت أشكال الضرر وأركانه على التجارة والتجار في المدينة، وفقًا لكميل، ابتداءً من الأضرار المباشرة التي لحقت بالمحلات التجارية، حيث تعرض جزء كبير منها لتدمير جزئي أو كلي، إما بالهدم أو الاحتراق، أو جراء التدمير في البنية التحتية والشوارع المؤدية إلى هذه المحلات، فضلاً عن الخسائر في البضائع جراء تلف كميات منها، إما بفعل آليات الاحتلال، أو تلف المواد الغذائية ذات الصلاحية المحددة والتي فسدت خلال مدة الإغلاق.
وتضاف إلى ذلك الخسائر الكبيرة الناجمة عن توقف حركة البيع والتسوق لمدة عشرة أيام متواصلة، فالتجار في جنين لم تدخل عليهم أية مدخولات طيلة هذه الأيام، ولا يقتصر حجم الخسارة على عدم دخول أرباح خلال الأيام العشرة، وإنما أيضًا بوجود التزامات للدفع دون حدوث مردود مادي أو ربحي، ومن ذلك على سبيل المثال أجرة المحلات.
ما يجعل الخسارة التي لحقت بالقطاع التجاري في جنين خلال الاقتحام والعدوان الأخير هي الأكبر من بين الاقتحامات السابقة، أن مدة العدوان هي الأطول منذ اجتياح عام 2002، إذ صاحبها تدمير وتخريب واسعان.
إضافة إلى أن هذا العدوان والحصار جاء في أحد مواسم الذروة التجارية في المدينة التي تشكل التجارة عمود الاقتصاد فيها، فموسم التحضير لبداية العام الدراسي يضاهي مواسم الأعياد في أهميته بالنسبة إلى التجار، وفقًا لكميل.
ويوضح أن أغلب التدمير والأضرار، لحق بالمربع التجاري للمدينة الذي يمثل مركزها الاقتصادي، كما لحقت أضرار بالحي الشرقي، الذي تعرض لتدمير وتخريب غير مسبوقين.
وينوه إلى أن الضرر الاقتصادي شامل وواسع ولا يستثني أي قطاع، فإلى جانب الباعة والتجار، تعرض العمال لخسائر كبيرة جراء توقفهم عن العمل بشكل كامل، خاصة أن نسبة كبيرة منهم بنظام المياومة.
ويشدد كميل على أن القطاع الاقتصادي والتجاري في جنين يتعرض لخسائر تراكمية منذ أربعة أعوام، وبدأت هذه الخسائر تسجل منذ إغلاق حاجز الجلمة عام 2020، واستمرار هذا الإغلاق لحوالي عام ونصف العام، فمن خلال هذا الحاجز كان يدخل الفلسطينيون من أراضي الـ48 إلى جنين، الذين بدورهم ينعشون الحركة التجارية والاقتصادية فيها، كما أنه تم إغلاق الحاجز مجددًا مع بداية العدوان على قطاع غزة، علمًا أن الفترات السابقة لذلك شهدت أيضًا إغلاقات متكررة للحاجز بين حين وآخر.
وبلغة الأرقام، يشير كميل إلى أن جنين كانت تسجل أكثر من ثلاثة ملايين زيارة من داخل الـ48 سنويًا في الظروف الطبيعية، كما كان أهالي الداخل ينفقون ما مجمله 370 مليون شيقل شهريا في جنين.
خلال العام الماضي 2023 وثقت الغرفة التجارية، 93 يوم إغلاق تجاري بالكامل تعرضت له المدينة، ولأيام الإغلاق هذه تبعاتها التراكمية على نسبة الدخل لدى التجار.
ويضيف كميل: خلال الفترات الأخيرة، هناك تراجع في نسبة مبيعات التاجر في جنين لتصبح ربع ما كان يبيعه في عام 2022 على سبيل المثال، لكن مع العدوان الأخير وتبعاته، قد تتراجع النسبة أكثر لتصل إلى 15% من مجمل مبيعاته قبل عامين.
وحجم الخسائر التجارية والاقتصادية يتصاعد منذ أعوام، لكن تم تسجيل أرقام الخسائر الأعلى خلال الأشهر الأخيرة، وتزامنًا مع استمرار العدوان على قطاع غزة، تتصاعد الأضرار الناجمة عن الاقتحامات وتبعاتها، إضافة إلى تبعات إغلاق حاجز الجلمة وعدم دخول المتسوقين من أراضي الـ48، وكذلك منع العمال من الوصول إلى أعمالهم في أراضي عام الـ48.
ويؤكد أنه من الصعب الحديث عن توقيت أو فترة زمنية لبداية تعافي قطاع التجارة والاقتصاد في جنين، لأن التعافي مرتبط بالإعمار الكامل، لكن حتى وإن بدأت جهود الإعمار فلا يوجد ضمانات لعدم تكرار الاقتحامات وما يرافقها من تدمير.
وكانت قوات الاحتلال قد شنت عدوانًا على مدينة جنين ومخيمها استمر عشرة أيام، من تاريخ 28 آب/أغسطس الماضي، إذ أدى إلى استشهاد 21 مواطنًا من المحافظة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها