بقلم: رامي سمارة
يُستدل من حديث وضحة إسماعيل النجار (64 عامًا)، أنه لم يكن منصفاً استخدام تعبير "القاسي" في مواقع وصفحات إخبارية لوصف فيديو اعتداء مستعمرين عليها، في قرية شعب البطم جنوب الخليل، في تموز/ يوليو المنصرم.
تلك المسنة التي انهال عليها مستعمر يمتشق عصا غليظة بالضرب، لم تكن تستبعد مآلاً أكثر تراجيدية من فقدان الوعي والاستفاقة على جرح غائر في الرأس وكدمات في الظهر والذراعين، وكانت تخشى أن تلقى مصير أسرة سعد دوابشة، التي قضى أفرادها إلا طفلاً حرقًا وهم نيام، حين أضرم مستعمرون النار في منزلهم بقرية دوما جنوب نابلس قبل تسعة سنوات.
وفي شعب البطم، اجتاح المكان مستعمرون يحملون العصي، يحرسهم جندي شاهر بندقية، انقسموا إلى فريقين، فريق دهم حظيرة المواشي، وآخر تقدم نحو وضحة وابنة أخيها سهيلة وهما جالستان أمام محل تجاري تملكه العائلة، فأخذتا تستنجدان.
وقد هرع عنان ابن شقيق آخر لوضحة، إلى صوت الجلبة، فعاجله مستعمران بضربه على رأسه وخاصرته فسقط أرضاً مغشياً عليه، وحين همت عمته بحمايته انهال أحد الغزاة عليها ففقدت الوعي هي الأخرى.
وتعتقد وضحة أن ما جرى كان مخططاً له، وكان هدفه إراقة الدماء حدّ إزهاق الأرواح، وتعتقد أنها لو بقيت وابن أخيها واقفين على أقدامهما لما برح المستعمرون ضربهما والإجهاز عليهما، فأنقذهما الغياب عن الوعي.
وتقول المسنة النجار: "ربما ظنوا أننا فارقنا الحياة، ولو تبينوا أننا ما زلنا نتنفس لما تركونا"، وتستطرد في تعداد المرات والسبل التي شن المستعمرون بها اعتداءاتهم على القرية، وكيف ارتفعت وتيرتها بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تاريخ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة.
وتضيف: "منذ اندلاع الحرب، أصبح أفراد العائلة يتعاقبون على الحراسة؛ تحسباً لهجوم غادر يستخدم فيه المستعمرون سبلهم المعهودة كضربنا بالعصي وقذف منازلنا بالحجارة، أو بتقطيع أشجار الزيتون، أو بسرقة المواشي وقتلها، أو بقتلنا نحن، فمن أحرق عائلة دوابشة وهم نيام لن يتورع عن فعلها ثانية".
واستحضاراً لخرافة "أرض بلا شعب" التي اتكأت عليها الحركات الصهيونية مطلع القرن العشرين في الترويج لاحتلال فلسطين، يسعى المستعمرون مدعومين بقوة الجيش وسلطته، إلى إفراغ شعب البطم -المحاطة بحزام استعماري- من مواطنيها.
ولذلك، ووفقاً لاعتقاد وضحة، لم تدّخر عصابات المستعمرين جهداً ولا وقتاً، ولم تعدم وسيلة في تنفيذ عمليات البلطجة؛ ظناً أن ذلك سيعظّم في نفوس السكان الأصليين الإحساس بعدم الاستقرار والخطر؛ فيفرون خشية على حياتهم إلى بقعة أكثر أماناً، ويتركون وراءهم أرضاً بلا شعب.
وليست قرية شعب البطم التجمع الفلسطيني الوحيد الذي يسيل عليه لعاب المستعمرين؛ فهناك ما لا يقل عن إثنا عشر تجمعاً آخر مهددًا بالتهجير القسري أغلبها يقع جنوب الخليل، والأخرى تتوزع بين أريحا والأغوار الشمالية وسلفيت وبيت لحم، وفقاً لتقرير صدر في أيار/ مايو عن المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان.
وفي الفترة الواقعة بين السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والثامن من تموز/ يوليو 2024، سجّل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، 1084 هجمة شنّها مستعمرون على الفلسطينيين، وأسفرت 107 منها عن سقوط ضحايا بين شهيد وجريح، فيما تسببت 859 هجمة في إلحاق أضرار في الممتلكات.
وحسب مرصد شيرين أبو عاقلة، فإن عشرين مواطنًا بينهم ثلاثة أطفال، قُتلوا على يد مستعمرين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، سبعة منهم استُشهدوا منذ مطلع عام 2024.
ووفقاً لـ"أوتشا"، فقد نجح عنف المستعمرين والقيود على التنقل والوصول التي يفرضها الجيش، في تهجير نحو 1390 مواطنًا، بينهم 660 طفلًا، من 29 تجمعًا بدويًا ورعويًا في الضفة الغربية، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، فإن إجراءات الاحتلال وبلطجة المستعمرين ساهمتا في تهجير خمس تجمعات فلسطينية بدوية، كانت تتألف من ثماني عشر أسرة مكونة من 118 فرداً، خلال النصف الأول من عام 2024.
وتبين الهيئة أن الفترة ذاتها شهدت إقامة سبعة عشر بؤرة استعمارية جديدة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليصل مجموعها إلى 95 بؤرة تسيطر على مساحة تقدر بنحو 412 ألف دونم، فضلاً عن 190 مستعمرة يأوي إليها نحو 740 ألف مستعمر.
ويُجمع باحثون ومختصون على أن إرهاب المستعمرين في ظل حرب الإبادة على قطاع غزة تحول إلى فعل شبه يومي، لا يمكن فصله عن سياسة دولة الاحتلال وخطتها للتطهير العرقي وتمكين الاستعمار من التوسع.
ويشير المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، إلى أن الأعمال الإجرامية لمنظمات المستعمرين، التي سهّل الوزير المتطرف إيتمار بن غفير تسليحها وشكّل فرق طوارئ لحمايتها أمنياً وقانونيًا، دخلت طورًا متقدماً من الإرهاب المنظم؛ بعد أن أضحت المستعمرات دفيئات لتفريخ الفكر الإرهابي وتشكيل تنظيمات متطرفة مسلحة، تحولت إلى قوة ضغط تتحدى تدابير تلجأ إليها سلطات الاحتلال؛ لإبقاء الأوضاع تحت السيطرة، وامتصاص ردود الفعل الدولية المنددة بتنامي عنف المستعمرين.
ويعتبر مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، عنف المستعمرين جزءًا من سياسة دولة الاحتلال، تسمح به وتتيح تنفيذه، كجزء من إستراتيجية نظام الفصل العنصري الساعي إلى استكمال عملية الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، مبينًا أن ما يقوم به المستعمرون من أعمال إرهاب يمكّن إسرائيل من الزعم أن العنف يرتكبه أفراد عاديون وليس الدولة ولا أجهزتها الأمنية، في حين تستفيد هي إستراتيجياً دون أن تكون عرضة لانتقاد دولي.
ظاهرياً، يبدو كأن هناك مسارين منفصلين، الدولة تستولي على أراضي الفلسطينيين بطرق علنية ورسمية، بينما المستعمرون الراغبون هُم أيضاً في الاستيلاء على أراضٍ لأجل تحقيق أهدافهم، يستخدمون العنف ضد الفلسطينيين بمبادرة منهم ولأسباب تخصهم، حسب المركز الحقوقي الإسرائيلي.
لكن ذلك يمثل في واقع الأمر مساراً واحداً، إذ تعمل دولة الاحتلال على معالجة نتائج الواقع الجديد، إذ بخلاف إهمالها شكاوى الفلسطينيين القانونية إزاء تعرضهم لإرهاب المستعمرين، هي لا تخليهم من أراضٍ سلبوها بالقوة إلا نادراً، وعوضاً عن ذلك تمنحهم الدعم لإقامة "بؤر عشوائية"، وتعمل لاحقاً على تسوية أوضاعها القانونية.
وتُظهر قاعدة بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أنه منذ مطلع العام الجاري 2024، أُعلنت رسمياً تسوية أوضاع "شرعنة" أحد عشر بؤرة استعمارية وتحويلها إلى مستعمرات رسمية، مشيرةً إلى وجود نحو 95 بؤرة نشطة تأخذ شكلاً رعوياً وزراعياً، من أصل 196 بؤرة استعمارية، تحول دون وصول المواطنين إلى أكثر من 390 ألف دونم من أراضيهم، دون أوامر عسكرية رسمية معلنة، إنما محض سيطرة بالإرهاب والعربدة والحماية الرسمية العسكرية.
ويقول رئيس الهيئة مؤيد شعبان: "لا يمكن إحداث فصل وظيفي بين قضيتي إنشاء البؤر الرعوية التي أقيم 71% منها بعد عام 2015، وقضية الترحيل القسري الجاري هذه الأيام، والذي وصل إلى ذروته بعيد بدء العدوان في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إذ شكلت الحرب غطاءً واسعاً لسلوك عصابات المستعمرين الإرهابية الهادفة إلى إحداث هذا النوع من التهجير، في واحد من أشكال التبادل الوظيفي للأدوار مع المؤسسة الرسمية".
ويقود إضفاء صفة الشرعية على البؤر الاستعمارية، وما يرافق ذلك من استيلاء على المزيد من الأراضي، إلى حصر وجود الفلسطينيين في المناطق المصنفة (أ) و(ب) حسب اتفاق أوسلو، خاصة أنها تقام في مواقع ليست عشوائية، وتستند إلى تخطيط مسبق لتشكل نقاط ربط بين المستعمرات القائمة.
واتهمت حركة "السلام الآن" الإسرائيلية حكومة بنيامين نتنياهو بأنها استغلت الحرب لخلق وقائع استعمارية جديدة على الأرض، إذ أجازت إقامة 25 بؤرة استعمارية جديدة، وصادقت على إنشاء 8721 وحدة استعمارية في المستعمرات القائمة، ووافقت على شرعنة خمس مستعمرات جديدة، وأتبعت ثلاث بؤر كأحياء لمستعمرات مجاورة، واعترفت بـ70 بؤرة استعمارية "غير قانونية".
وأظهرت معطيات لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان ومركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أعلنت الاستيلاء على 40 ألف دونم منذ بداية عام 2024، مشيرةً إلى أن مجمل عمليات الاستيلاء على الأراضي الأخيرة، التي جاء أغلبها تحت مسمى "أراضي دولة" بقرابة 24 ألف دونم، يهدف إلى الربط الجغرافي بين مستعمرات قائمة أو توسعة حدود أخرى، أو بغية شرعنة بؤر استعمارية، بما يقود في نهاية المطاف إلى عزل التجمعات الفلسطينية وقطع التواصل بينها.
ويقول الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" وليد حباس: "إن حكومة أقصى اليمين في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، استهلّت عملها مطلع عام 2023 بممارسات متسارعة لتحقيق رؤية وزير المالية من حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش، برفع عدد المستعمرين في الضفة إلى مليون مستعمر بحلول عام 2030، تطبيقًا لتفاهمات الاتفاق الائتلافي، التي نصت على أن الاستعمار في الضفة حق لليهود غير قابل للتصرف"، موضحًا أن أبرز تلك الممارسات تتمثل في تسوية أوضاع البؤر الاستعمارية وتحويلها إلى مستعمرات مستقلة، ونقل صلاحيات استخدام "أراضي الدولة" مما تسمى بالإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال، إلى وزارات مدنية يقودها مستعمرون.
ويرى حباس أن الحق الفلسطيني في إنشاء دولة مستقلة سيصبح أكثر تعقيداً؛ إذ إن إخلاء مئات الآلاف من المستعمرين سيغدو أمرا أصعب من الناحية العملية.
ويضيف: "تشير التحولات في قضية البؤر الاستعمارية إلى أن سياسات إسرائيل تساهم في تعميق اندماج البنية التحتية والصناعات والسياحة الداخلية والثقافة بين إسرائيل والضفة؛ الأمر الذي يفرض واقعًا من خلاله لا تعود المستعمرات والبؤر مجرد أجندة لليمين الإسرائيلي وحسب، بل جزءًا أساسيًا من عمل الدولة ومؤسساتها بحكم الأمر الواقع، وهو يعني أن مشروع الاستعمار يصبح جزءًا لا يتجزأ من المشاريع والرؤى الحكومية الإسرائيلية، بغض النظر عن هويتها السياسية".
وفي حزيران/يونيو الماضي، كُشف النقاب عن تسجيل صوتي لوزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، استعرض فيه خطة لإجهاض أي محاولة لأن تكون الضفة جزءا من الدولة الفلسطينية؛ عبر تعزيز السيطرة الإسرائيلية عليها بشكل لا رجعة فيه، ودون أن تُتهم بضمها رسميًا.
وتقوم الخطة على نقل السيطرة على الضفة من العسكريين في "الإدارة المدنية" إلى موظفين مدنيين مقربين منه يعملون ضمن جهاز مستحدث داخل وزارة الجيش، بمهام تُسهّل إصدار قرارات توسيع المستعمرات، وهدم منازل الفلسطينيين، ومنعهم من البناء، والاستيلاء على أراضيهم، بما يعطي الانطباع بأن الصلاحيات المتصلة بالضفة لم تُنقل إلى الحكومة بل ما زالت بيد الجيش؛ باعتبارها أراضي محتلة، بينما يجري على الأرض فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
ولا تعلم المسنة وضحة النجار كثيراً عن سياسة تبادل الأدوار بين جيش الاحتلال والمستعمرين في مساعي ضم قريتها القائمة منذ نحو 120 عاماً والتي تقطنها 32 عائلة، ولكنها تعلم يقيناً أن الجندي الذي رافق العصابة المعتدية وأشهر بندقيته في وجه عائلتها وأطلق النار، هو بالأساس مستعمر يدعى "ابن يعقوب" واسمه "بيتسل"، ويقطن في بؤرة "يعقوب داليا" الاستعمارية، التي أقامها والده وتحمل اسمه في منطقة مسافر يطا، وقد كان موجوداً في معظم الاعتداءات التي شنها المستعمرون في المنطقة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها