لعبت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، التي تشكلت 1949 بعد نكبة الشعب الفلسطيني في مايو 1948، دورًا هامًا منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي في تقديم الدعم الإنساني للاجئين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان والضفة والقطاع حيث لجأ اليها نحو مليون فلسطيني من مدن وقرى وبلدات الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة. كما شكلت الوكالة الشاهد الأساس على نكبة الشعب العربي الفلسطيني، رغم أن من دعم تأسيسها آنذاك، أراد لها طمس الأبعاد السياسية والقانونية للقضية الفلسطينية على طريق تصفيتها من خلال مؤامرات التوطين للاجئين في دول الشتات، التي لجأوا إليها. لكن الشعب الفلسطيني رفض كل أشكال التوطين، وتصدى لمؤامرات قوى الأعداء منذ اللحظة الأولى. 
هذه المؤسسة الأممية الهامة، والتي لعبت دورًا مهمًا في مجالات الإسناد الإنساني والتنموي وخاصة في مجال الصحة والتعليم وتأمين مخيمات إيواء لهم ولأبنائهم، حتى باتت منارات علم ومعرفة واستنهاض الذات الوطنية، لأنها شكلت تربة صلبة وحاضنة ورافعة للكفاح التحرري، وإن كان الدفاع عن الهوية والشخصية الوطنية والمشروع الوطني شمل الكل الفلسطيني دونما استثناء، مما أثار مخاوف دولة إسرائيل والولايات المتحدة ومن تساوق معهم، وتضاعفت المؤامرة على ملف اللاجئين بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو 1993، حيث افترضت تلك الدول أن الفرصة أمست سانحة لتصفية مكانتهم وعودتهم، التي كفلتها قرارات هيئة الأمم المتحدة، وخاصة القرار الاممي 194، الذي وقع وزير خارجية إسرائيل موشيه شاريت حينئذ على استعداد إسرائيل على تنفيذ حق العودة للاجئين لوطنهم الأم فلسطين، لكن لم ينفذ منه شيئًا. 

ومنذ المباشرة بالإعلان وتنفيذ صفقة القرن في نهاية عام 2017 تعمقت وازدادت عملية التآمر على الملف، وأخذت الدول ذاتها مع آخرين على محاربة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" من خلال أولاً العمل على تقليص عدد اللاجئين إلى الحد الأقصى، وبما لا يزيد عن 40 ألفًا من أصل نحو 6 مليون لاجئ؛ ثانيًا تخفيف المساعدات المالية لميزانيتها السنوية، وتلفيق التهم بالفساد لموظفيها، وآخرها كان اتهام 12 موظفًا من بين ما يزيد عن 13 ألف موظفًا في غزة بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى، ما دفع العديد من الدول بالركض في متاهة الإدارة الأميركية وقطع المساعدات عن الوكالة فورًا وقبل حتى من أن يظهر الخيط الأبيض من الأسود، لكن الدول كافة تراجعت عن مواقفها الخطيرة بعد أن تبين أن التهم الإسرائيلية كاذبة ومزورة، ومع ذلك حتى الآن ترفض الولايات المتحدة إعادة تمويلها للأونروا، التي تقدر مساهمتها نحو 40% من ميزانية هيئة غوث وتشغيل اللاجئين؛ ثالثًا تقوم دولة حرب الإبادة الإسرائيلية عن سابق تصميم وإصرار باستهداف موظفي الوكالة، الذين ارتقى منهم حتى الآن نحو 195 شهيدًا، كما استهدفت مدارس ومؤسسات الأونروا، وتم تدمير قرابة ثلثي المؤسسات التعليمية والصحية والإدارية؛ رابعًا مصادقة الكنيست على قرار إسرائيلي يصف هيئة الأمم المتحدة عمومًا ووكالة الغوث خصوصًا بأنها "منظمة إرهابية"، وهذا قمة الفجور والغطرسة والخروج على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، كونها حامية القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي؛ خامسًا قامت الإدارة الأميركية بمحاولات عدة من أجل إلغاء دور ومكانة الأونروا عبر إحضارها مؤسسات أميركية أثبتت الأحداث في حرب الإبادة الجماعية فشلها الذريع، وأكدت أن لا مجال للاستغناء عن وكالة الغوث.

ومع ذلك لا اعتقد أن إسرائيل وسادتها في واشنطن واضرابهم وأدواتهم من عرب وعجم سيتوقفوا عند هذا الحد، بل سيواصلون انتاج المؤامرات حتى بلوغ هدفهم، إن استطاعوا. 
ومن علامات التواطؤ مع المخطط الصهيو أميركي ما شاهدناه في أعمال مؤتمر إعلان التعهدات لوكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين "الأونروا"، الذي عقد يوم الجمعة 12 يوليو الحالي في مقر هيئة الأمم المتحدة، حيث تعهدت 118 دولة من الدول المشاركة بتوفير التمويل الدائم والكافي لبرامج الوكالة، تعبيرًا عن تضامنهم مع اللاجئين الفلسطينيين. وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، دينيس فرانسيس، والمفوض العام لوكالة الغوث للاجئين، فليب لازاريني طالبوا بتقديم دعم لموازنة الوكالة، التي تقدر 1,2 مليار دولار أميركي لتأمين احتياجات الوكالة التي تضاعفت نتاج تفاقم الأوضاع وعمليات التدمير والموت للمؤسسات والموظفين، فلم يقدموا أكثر من نحو 20% من مجمل الأموال المطلوبة، وهذا المبلغ لا يفي باحتياجات الوكالة الا لشهر سبتمبر القادم.

وهناك تقدير من مراقبين عدة أن أموال الدعم التي يمكن إيرادها قبل نهاية العام لا تزيد عن 30% من إجمالي ما تحتاجه الوكالة. 
كما أن البيان الصادر عن المؤتمر كان عبارة عن جمل إنشائية، ولم يتضمن خطة وآليات عمل وتعهدات جادة لتمويل موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وحمايتها من التبديد والنصفية، أحد أهم أهداف القوى المتربصة بها وخاصة إسرائيل وأميركا. أضف إلى أن البيان لم يشر من قريب أو بعيد لمأساة الشعب الفلسطيني خلال الشهور العشر الماضية من حرب الإبادة الجماعية، ولا لما أصاب مؤسسات وموظفي الوكالة من موت نهائيًا، في الوقت نفسه، ورغم أن ملف التلفيق والتزوير الذي اتهم 12 موظفًا من الوكالة بالمشاركة في عملية 7 أكتوبر 2023 افتضح أمره، وتبينت الحقائق بأكاذيب إسرائيل اللقيطة، مازالت لجنة تحقيق "تتابع عملها" بشأنه، وهذا يشير إلى أن هناك إصرارًا على إخفاء الحقائق ومواصلة تصفية "الأونروا" عن طريق تصفية ملف اللاجئين الفلسطينيين.

بالمحصلة لا يوجد صدى جدي لنتائج المؤتمر، ورصيده محدود الأثر، ولا يفي بالاستحقاقات المالية المطلوبة، الأمر الذي يتطلب حث الدول المختلفة الموقعة على البيان على وضع خطة عملية جدية للإسهام في صيانة المؤسسة الأممية الأهم والأكثر جدارة في تقديم المساعدة للفلسطينيين لمخيمات الشتات الثمانية والخمسين المعترف بها دوليًا في الوطن الفلسطيني ودول الشتات لحماية قرابة الستة مليون فلسطيني، والعمل على وضع خطط من الآن أيضًا لإعادة إعمار ما دمرته حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني. الكرة في مرمى العالم أجمع، وخاصة الأقطاب الدولية عمومًا والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي قادرة على تأمين الاستحقاقات المالية واللوجستية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". فهل هم فاعلون؟