الدول الأصلانية ذات الجذور التاريخية بمكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاثنية والدينية والثقافية لا تتأثر بالأزمات أي كانت مسبباتها وتداعياتها، التي تنحصر في تغيير الأنظمة السياسية، بيد أنها كدول تبقى حتى لو بلغ عمق أزماتها مرحلة الدول الفاشلة. ولكن الدول المصطنعة عديمة الانتماء للأرض والأوطان مهما بلغت من القوة الشكلانية، فإن مقومات فناءها تبقى ملازمة لها. لأن من توطن فيها لا يرتبط الا بمصالحه الضيقة فقط، ولا يهمه تاريخ، ولا دين ولا ثقافة، كونه منقطع الجذور بها، أضف إلى أن تناقضاتها متشعبة وواسعة بحكم هوياتها وأثنياتها ومللها المختلفة. وبالتالي عندما تتضرر المصالح الشخصانية يصبح الرحيل والهجرة إلى البلدان الأصلية هو الخيار الأول للمرتزقة، أو إلى دول أخرى تؤمن له مصالحه الفردية أو الجمعية. 
والنموذج الثاني ينطبق على سكان الدولة العبرية، التي تعيش منذ تأسيسها تناقضات واسعة وعميقة على الصعد المختلفة، ومن بين هذه التناقضات المثارة الآن وبقوة في الشارع الإسرائيلي موضوع إعفاء الحريديم من التجنيد، الذين يشكلون ثُمن سكان إسرائيل اللقيطة، أي ما يقارب ال15%، ويعود قرار إعفاء الشباب الحريديم من التجنيد الإجباري إذا التحقوا بمدرسة دينية، إلى تسوية تم التوصل إليها في عهد رئيس الوزراء الأول، ديفيد بن غوريون عام 1948، التي أعفت حينذاك 400 شاب متدين من الخدمة العسكرية. 
وخلال العقود الماضية باتت التسوية مثار خلاف مع زيادة الإعفاءات لهم بفضل قرار صدر عام 1977 مع صعود الليكود للحكم مع نمو وازدياد عدد السكان المتدينين. وعاد قانون الإعفاء للجدل والصراع بين المكونات الإسرائيلية عام 2015، ثم عام 2017، وتم تأجيل البت به مرة تلو الأخرى، إلى أن وصل الآن وفي زمن حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني برمته وخاصة في قطاع غزة، حيث يفتقد الجيش الإسرائيلي إلى الموارد البشرية، مع زيادة الخسائر في صفوفه، ورفض الليبراليين والعلمانيين عمومًا تجديد قانون الإعفاء للمتدينين، الذين يبلغ عدد الشباب بينهم إلى 66 ألف شاب. 


وعلى إثر عودة الجدل والتناقض بين المؤيدين لتجديد الاعفاء والرافضين لذلك في أوساط الائتلاف الحاكم، تم يوم الثلاثاء 26 مارس الحالي تأجيل جلسة الحكومة المقررة لبحث الملف، مع أن مهلة الحكومة انتهت أمس الأربعاء 27 مارس الحالي بعدما هدد الحاخام الأكبر لإسرائيل، يتسحاق يوسف، صاحب النفوذ الأكبر في حزب "شاس"، الحزب الثاني في الائتلاف الحاكم يوم السبت الموافق 9 مارس الحالي بالهجرة الجماعية لاتباعه إذا ما تم إلزام الحريديم على الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي، مما أثار عاصفة من ردود الأفعال في الأوساط السياسية والدينية والمذهبية لليهود الصهاينة.
وجاءت تصريحات الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل خلال حلقة لتعليم التوراة، قال فيها: أن "سبط لاوي معفي من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ولا يتم تجنيدهم تحت أي ظرف مهما كان، وأضاف "إذا اجبرونا على الذهاب إلى الجيش سنسافر جميعًا إلى الخارج، سنشتري تذاكر ونغادر". وأضاف يوسف قائلاً "كل هؤلاء العلمانيين الذين لا يفهمون، عليهم أن يفهموا أنه بدون التوراة والمدارس الدينية، لم يكن الجيش الإسرائيلي لينجح، إن نجاح الجيش هو فقط بفضل التوراة". حسب صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، وهو تصريح عبثي ويعكس عدم وجود انتماء للدولة، أو يعتبرها مجرد صراف آلي لتأمين حاجاته وحاجات سبطه اللاوي يتحملها دافع الضرائب الإسرائيلي والأميركي على حد سواء. 
ولا أريد اقتباس أي تصريح لا لغانتس، ولا للبيد ولا لليبرمان ولا لغيرهم من داخل أو خارج الائتلاف بقيادة نتنياهو، الذي سعى الأخير لإيجاد تسوية مع المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف أول أمس، لكنه لم يتوصل لاتفاق معها، الأمر الذي يهدد بقاء الحكومة، ويسرع بالذهاب للانتخابات المبكرة، ويعجل برحيل نتنياهو، ليس من الحكم، بل من المشهد السياسي برمته. 


لكن المهم جدًا هنا، هو ما صرح به الحاخام الأكبر، يتسحاق يوسف بحجز التذاكر ومغادرة إسرائيل دون رجعة، وهو ما يكشف ويؤكد أن العلاقة مع الدولة، هي علاقة نفعية ارتزاقية تقوم على الدعوات الكهنوتية، وما لم تحقق مصالح هذا الصهيوني الوافد للوطن الفلسطيني، او المجموعة المذهبية، أو الأثنية العرقية الآتية من إحدى دول العالم كمرتزقة، فإنه سيغادرها، وهو ما يعكس الحقيقة المذكورة في مدخل المقال عن الدولة المصطعنة والمفبركة واللقيطة، وتتجاوز خلفية ما صرح به الحاخام الأكبر "اعتبار دولة إسرائيل بمثابة فندق" الذي أشار له المسؤول المصري، ضياء رشوان، وأثار غضب حكومة نتنياهو، لأن التصريح يضرب عميقا بقاء واستمرار الدولة كدولة، وينفي ما تدعيه الحركة الصهيونية وقاعدتها المادية إسرائيل المارقة من وجود "جذور" لها في فلسطين التاريخية، وأيضًا يرسل رسالة للغرب الامبريالي وعلى رأسه الولايات المتحدة أن أداتهم الوظيفية لم تعد قابلة للحياة، وبالتالي عليهم إعادة نظر في الرهان على بقاءها، والبحث عن علاقات أكثر إيجابية مع الشعب العربي الفلسطيني خصوصًا والدول العربية عمومًا للبحث عن صيغة ما لحماية مصالحهم الحيوية في الإقليم، إن أرادوا البقاء والتأثير في المعادلة الدولية.