رغم تصاعد حجم جرائم الإبادة وصمود المقاومة في وجه آلة القتل والتدمير الشامل الإسرائيلية، ونجاحها في كسر تلك الهيبة المزعومة لجيش الاحتلال وتكبيده خسائر بالأرواح وبالقطاعات الأخرى.
فإنني ما زلت متفاجئ من أن البعض منا وفي هذا الزمن من اشاعة المعرفة وسرعة انتقال المعلومة ما زالوا يعتقدون بأحتكار الدور والحقيقة دون غيرهم، بل ويذهبون إلى التشكيك بمواقف وآراء غيرهم طالما لا تتفق مع رؤيتهم أو وجهات نظرهم، أو من رؤية البعض في أفشال الغير بأنها أنتصاراً لنفسه ورأيه.

الوحدة قانون الانتصار

فنحن باعتقادي ورغم تاريخنا الطويل من العمل الوطني المتشابك والمعقد بحكم طبيعة قضيتنا الوطنية، ما زلنا لم نعتاد على تفهم بعضنا البعض أو على ضرورات العيش باختلاف التقييم وتعدد الأفكار في إطار من الوحدة. أن تفهمنا لأراء بعضنا البعض ومراجعة الأداء وتقييم المراحل والسياسات سيساهم حتمًا بالدفاع عن شعبنا وحمايته وعن مكتسبات منظمة التحرير الفلسطينية من خلال التمسك بأرثها الكفاحي والارتقاء بدورها وتفعيلها كحركة تحرر وطني ببرنامج سياسي مقاوم، وكعنوان للبيت الجامع الفلسطيني الواسع من كل الأطياف بمن فيهم المستقلين من شعبنا وخاصة الشبابية منها، من أجل الوصول إلى تحديد الرؤية الموحدة السليمة في مواجهة التحديات القائمة أو التي يُرتب لها على الطريق.

ولأهمية ذلك فانني هنا أكرر ما قاله القائد الوطني مروان البرغوثي الذي ننتظر أن يعانق ورفاقه الأسرى حريتهم قريباً؛ "إنّ الوحدة الوطنية هي قانون الأنتصار لحركات التحرر وللشعوب المقهورة".
فهذا ما علمتنا إياه أيضًا تجارب حركات التحرر التي انتصرت بكفاحها على المستعمر حين اقامت الجبهات الوطنية والشعبية الواسعة لقيادة كفاح شعوبها من أجل الأستقلال الوطني رغم التباين في وجهات النظر أو الخلفيات الفكرية لمكوناتها. وهذا ما دعت له عدد من المذكرات والرسائل المفتوحة، ومنها "نداء فلسطين" الموقعة من آلاف نساء ورجال الحركة الوطنية بالداخل والشتات والموجهة إلى كل أصحاب القرار والأخوة من القيادات الفلسطينية لتأخذ بما جاء بها لمحاولة الخروج من عنق زجاجة أوضاعنا الوطنية الداخلية.

سراب حل الدولتين

قبل ثلاث عقود كان ممكن أن يكون تطبيق مبدأ حل الدولتين فكرة ملموسة وواقعية لحل الصراع من خلال إنهاء الاحتلال أولاً وبشكل كامل. أما اليوم وبعد المماطلة المنهجية من جانب الغرب في تنفيذ هذا الحل الذي تبناه المجتمع الدولي لفظياً بما شكله من جوهر المبادرات السياسية، والنظر إلى ما يجري من محاولات تنفيذ رؤية الحركة الصهيونية التي لم تتخلص من عقدة فكر الاستعمار والفوقية التي تلازمها في ارتكاب أبشع جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري، التي قامت عليها بالأساس كمقومات لإنشاء كيانهم على حساب حقوقنا ووجودنا في وطننا الذي لا نملك سواه. فقد أصبح النظام الفلسطيني ككل يواجه في هذه المرحلة خطر الانهيار نتيحة ما يواجهه من أزمة بنيوية تتعلق بتحلل الاحتلال من كل الاتفاقيات الموقعة سابقًا ومن انسداد الافق السياسي كما ومن غياب الحياة الديمقراطية ومن عدم الفصل بين السلطات.

وفي ظل ذلك فأن ما يدور اليوم من الحديث الجاري حول "حل الدولتين"، أصبح يشكل حلقة جديدة من مسار سراب السياسات الغربية وبالمقدمة منها الولايات المتحدة التي تستهدف من خلالها قتل حقنا المشروع بتقرير المصير وبإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا على كافة الأراضي المحتلة بالرابع من حزيران ١٩٦٧ بما فيها القدس الشرقية كعاصمة لهذه الدولة العتيدة، وهو ما يشكل جوهر مبدأ حل الدولتين الذي يستند بالأساس من حيث المبدأ القانوني إلى القرار الأممي ١٨١ بإقامة دولتين بالإضافة إلى القرار ١٩٤ المتعلق بحل قضية اللاجئين المهجرين قسراً من وطنهم الأصلي.
ورغم ذلك فإن تجسيد مبدأ حل الدولتين يجب أن يقوم على وجود دولتين ذات سيادة وعلى الأعتراف المتبادل بينهما، لا التفاوض حول هذا المبدأ الذي اقرته الشرعية الدولية وقراراتها.
أن ما يتم الحديث عنه اليوم دون وضوح للحدود والمحتوى والشكل والمكانة القانونية المترافق مع تصريحات بايدن عن دولة فلسطينية ذات أنماط لم يحدّد طبيعتها، لا يعدو كونه بيع أوهام للفلسطينيين والعرب والعالم كله من أجل خدمة مصالح الولايات المتحدة في منطقتنا.
وهو حديث يندرج فقط في إطار إفراغ هذا المبدأ من مضمونه وشكله ومكونه القانوني بعد كل تلك العقود، وذلك بالاستفادة من الوقت الطويل الذي منحه النظام الدولي القائم والمنحاز باحاديته القطبية إلى جانبد إسرائيل التي تستولي اليوم بفعل توسع المستوطنات على ما يقارب ٦٠% من أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة بوجود حوالي ٨٥٠ ألف مستوطن في أكثر من ٢٤٠ مستوطنة استعمارية وضم القدس كعاصمة موحدة لهم بحيث اصبحت الأرض مجموعة من الجزر المحاصرة بوجود الجدار والحواجز. لقد بات من المستحيل العودة بتلك الأوضاع إلى الخلف والحديث عن حل الدولتين اليوم كما كان بالأمس.

إننا نستطيع الحديث أو التجاوب مع ما يعلن عن حل الدولتين، فقط عندما يتم انهاء الأحتلال أولاً وعندما يتوقف هذا المشروع الاستيطاني تماماً وإنهاءه بمسوؤلية أخلاقية وقانونية من قبل المجتمع الدولي والإشارة له بحدود دولة فلسطين المعترف بها كعضو مراقب بالجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٢ وما أقرته الشرعيات الوطنية الفلسطينية وتحديدًا في وثيقة اعلان الاستقلال، وعندما تتوقف الولايات المتحدة الشريك الإستراتيجي لإسرائيل عن دعمها المطلق وتظاهرها كوسيط محايد للسلام في وقت اتاحت لها الافلات الدائم من العقاب وتمكينها من الانتهاك المستمر للقوانين الدولية. وفي مثل هذه الأيام وقبل ٢٠ عامًا كان الرئيس المؤسس الشهيد أبو عمّار قد حذر من نفاذ فرصة تنفيذ حل الدولتين بحكم الأستيطان والضم والجدار.

العدالة الدولية

ففي ظل التطورات والمتغيرات الجارية على المستويات المختلفة، لن تتمكن دولة الاحتلال أن تبقى فوق القانون الدولي، خاصة مع تصاعد عزلتها أمام الرأى العام الدولي وما تقوم به شعوب العالم من انتفاضة تضامنًا مع كفاح شعبنا العادل ومقاومته بالدفاع عن نفسه وفق القوانين الدولية من أجل وصوله للحرية والاستقلال الوطني إضافة إلى المتغيرات الدولية الجارية بالنظام الدولي. لقد قامت دولة جنوب إفريقيا وبما تحمله هذه الدولة وشعبها ومكانة زعيمها الراحل منديلا تتعلق بتاريخ من قيم الحرية ومعاداة أشكال الأستعمار والعنصرية، بجهود إنسانية وقيمية وقانونية وفعل سياسي لم يقم به الآخرين. توجهها القضائي بامتياز سيكون له تبعاته مع إقرار محكمة العدل الدولية أمس بقبول القضية المرفوعة ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية وفق المعاهدة الخاصة بذلك. فقد كانت المحكمة غاية بالوضوح وفق محددات صلاحياتها بفضح جرائم الاحتلال المرتكبة في غزة من خلال اعتمادها على المرافعة القضائية لجنوب إفريقيا وعلى الوقائع على الأرض وفق تقارير عدد من المنظمات الدولية، وبالتالي كان قرار المحكمة الذي شكل برأئي بداية مسار جديد من أحقاق العدالة لشعبنا بعد ٧٦ عامًا من غيابها، كما واتخاذ قراراتها أمس بضرورة قيام دولة الاحتلال باتخاذ وتنفيذ تدابير إجرائية فورية لوقف كافة الأعمال ورفع تقارير بالخصوص خلال شهر. أن إسرائيل كدولة في قفص الاتهام اليوم يتوجب عليها وقف العدوان من أجل تنفيذ مطالب المحكمة وتدابيرها، وستبقى هي حاضرة أمام العدالة الدولية بشبهة تهمة الإبادة الجناعية لفترة زمنية قد تطول بحكم إجراءات المحكمة وصولاً إلى الحكم النهائي المنتظر بالقضية والاتهام التي باتت منذ الآن توصف به إسرائيل أمام العالم بعد ٢٦ يناير، إلى جانب كونها دولة ابرتهايد بما سيكون له تداعيات ليس كما قبل في شكل علاقاتها الدولية ونظرة الرأي العام لها وبما يتوافق مع وضع إسرائيل الناشئ بعد ٧ أكتوبر الذي وضعها في موقع ليس كما قبله خاصة على مستواها الداخلي المتشظي والسقوط الذي أصاب منظومتها الأمنية.

الرؤية الأوسع

أن كل ذلك هو ما يتوجب البناء عليه ليُنتج متغيرات داخل مجتمع دولة الأحتلال الذي برغم جنوحه بتصاعد نحو اليمين الفاشي، فهنالك تعالي لاصوات فيه تسأل اليوم عن جدوى الحرب ومستقبل استقرار الدولة بنتيجة تكلفة احتلاله المتزايدة عليه وعزلة دولته المتصاعدة، وصولاً إلى ضرورات قناعاته بإنهاء آخر أحتلال أستيطاني يمارسه هو، وأدراكه بأن من يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً.

وتبقى احتمالات توسيع رقعة العدوان بجرائم جديدة ضد شعوب منطقتنا قائمة بالتوافق مع رؤية الإدارة الأمريكية في محاولاتها لإنهاء ثقافة المقاومة وتطويع اراداتها خدمة لمصالح مشاريعها في الأستحواذ على مقدرات منطقتنا واخضاعها لتفوق دولة الأحتلال على حساب حقوقنا السياسية وفرض تحالفات جديدة يخدمها في إطار صدامها مع روسيا والصين بعد اقتراب خساراتها في أوكرانيا وتراجع حضورها وهيمنتها بأميركا اللاتينية وأفريقيا، من خلال توسيع اتفاقيات التطبيع وسياسات الترغيب والترهيب للدول المجاورة.