القوة والضعف مفهومان مختلفان ومتمايزان بالشكل والمضمون، يطالان الانسان والمؤسسات والشركات والأحزاب والدول وحتى الظواهر الطبيعية والمناخية، وغالبًا ما يكونان نسبيان، فالقوة والضعف ليسا دائمين نتاج التأثيرات البيولوجية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتنظيمية، وبسبب التحولات المناخية والطبيعية. كما أن بعض الدول والأقطاب والأحزاب والحركات قد تكون في مرحلة تاريخية بعينها مؤثرة وفاعلة على اكثر من مستوى وصعيد، ولكنها في مراحل أخرى متغيرة تنقلب مكانتها وقدراتها وحضورها، وتصبح أقل تأثيرًا في النطاقين المحلي والإقليمي والدولي ارتباطًا بمجموعة العوامل آنفة الذكر، والعكس صحيح. 


أضف إلى أن بعض القوى والدول الضعيفة قد تكون قوية ليس بقدراتها وقوتها الذاتية، وإنما لأسباب تتعلق بفرادتها في الجيو بوليتك ومكانتها في معادلات الصراع الإقليمية والدولية، وأيضًا لعوامل موضوعية، ويستحضرني هنا مقولة الأشقاء اللبنانيين "قوة لبنان في ضعفه"، والشيء بالشيء يذكر، فإن قوة وأهمية القضية الفلسطينية تكمن وتتمثل في البعدين الذاتي والموضوعي، فأولاً تنبع قوتها من ثبات الشعب العربي الفلسطيني وتمسكه بحقوقه وثوابته الوطنية؛ ثانيًا أهمية ومركزية القضية الفلسطينية في المحيط العربي والإقليمي والدولي؛ ثالثًا عبقرية الجيو بوليتك لفلسطين في الوطن العربي، وكونها نقطة ارتكاز بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ رابعًا طبيعة واهمية العدو الصهيوني بالنسبة للغرب الرأسمالي، ودوره الوظيفي في خدمة المصالح الاستراتيجية لذلك الغرب، مما يضفي أبعادًا حيوية لمكانتها العالمية. 


مما لا شك فيه، أن الشعب العربي الفلسطيني، شعب صغير وضعيف الإمكانيات والقدرات، ومحاصر بعدو إسرائيلي مدعوم من الغرب وحلفائه في المنطقة والاقليم، حتى بات الجيش الإسرائيلي أحد الجيوش المركزية في الإقليم وعلى المستوى العالمي. وبالتالي النظام السياسي الفلسطيني المنبثق عن اتفاقات أوسلو 1993 نظامًا ضعيفًا، حتى في اوج صعوده، لانه أولاً مازال تحت نير الاستعمار الاجلائي الاحلالي الصهيوني؛ ثانيًا لتغول الدولة العبرية على مصالحه وحقوقه الوطنية، ولرفضها خيار السلام الممكن والمقبول – خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 -؛ ثالثًا لرفض الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الاعتراف بدولته الوطنية. رغم وجود ما يزيد عن الف قرار اممي لصالحه، ليس هذا فحسب، ولانحياز ذلك الغرب للدولة الإسرائيلية المطلق؛ رابعًا لعدم ارتقاء المنظومة الدولية لمستوى المسؤولية في إحقاق الحقوق السياسية والقانونية الفلسطينية، ارتباطًا بالمعادلات الدولية وتقاسم النفوذ في العالم؛ خامسًا لضعف وتهالك الرافعة العربية، لا بل ولتواطؤ بعض أهل النظام العربي ضد الأهداف الفلسطينية.


لكن الشعب الفلسطيني قوي ومؤثر في الجيوبوليتك على أكثر من مستوى وصعيد، منها: إيمانه العميق بعدالة قضيته الوطنية السياسية والتاريخية؛ لمواصلته الكفاح الوطني التحرري حتى تحقيق أهدافه بأشكال النضال المختلفة السياسية والديبلوماسية والمقاومة بعناوينها المتعددة؛ اتساع وتعمق التأييد في أوساط الرأي العام العالمي لقضيته الوطنية؛ افتضاح وانكشاف طبيعة العدو الصهيوني كعدو عنصري ونازي؛ وافتضاح مواقف الغرب الرأسمالي بقيادة واشنطن كحليف استراتيجي للدولة الإسرائيلية، مما أثر على الرأي العام داخل تلك الدول والأقطاب، والذي انعكس إيجابًا على الرأي العام العالمي في مختلف القارات، الذي لعبت فيه حرب الإبادة الصهيو أميركية الغربية الرأسمالية على قطاع غزة منذ 73 يومًا خلت دورًا مهمًا، نتج عنها تعرية تمامًا المنظومة الغربية بقضها وقضيضها. 


وعليه فإن الثرثرات والمواقف المعلنة عن ضعف النظام السياسي الفلسطيني والقيادة الفلسطينية لا تمت للحقيقة بصلة. لأن من يروج تلك البضاعة الفاسدة، يريد نظامًا سياسيًا مفصلاً على مقاس رؤيته وبرنامجه ومشاريعه التآمرية. أضف إلى أن الأعداء عمومًا -إسرائيل وسادتها في الغرب - هم وحدهم من ساهم بشكل مباشر في تقليم أظافر النظام الفلسطيني، والسماح لإسرائيل تحت مظلتهم باستباحته، وقادوا عملية حرب الإبادة مباشرة على الشعب الفلسطيني كله في الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. 


ومع ذلك فإن الشعب والقيادة الفلسطينية مازالوا رقمًا أساسيًا في معادلة الصراع، رغم ضعف الشعب والامكانيات والحصار وحرب الإبادة والموت والجوع والعقاب الجماعي، ومجددًا أعيد تأكيد المقولة اللبنانية: قوة الشعب الفلسطيني في ضعفه، ويستطيع أن يقلب الطاولة على رأس كل القوى العالمية وتحديدًا الولايات المتحدة واداتها الوظيفية إسرائيل، ونجحت اذرع المقاومة في السابع من أكتوبر الماضي من هز أركان الدولة الإسرائيلية اللقيطة، ووضع علامة سؤال كبيرة على مستقبلها في الوطن العربي، وكأداة في الإقليم.