بعد مرور نصف قرن فإن حرب تشرين الأول/ أكتوبر تعتبر أهم إنجاز عسكري للعرب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.

فهي قدمت نوعًا من التوازن في حينه يمكن من خلاله الدخول بمفاوضات مع إسرائيل من موقع قوة، ويمكن في الوقت نفسه تبرير المفاوضات جماهيريًا. وبعد هذه الحرب مباشرة سادت أجواء من التفاؤل بعقد مؤتمر دولي، وهو ما نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 338 الذي صدر قي الأيام الأخيرة للحرب وكان تعبيرًا عن التوازن الهش المذكور. لذلك تتابعت التطورات على الصعيد الفلسطيني مثل إقرار المجلس الوطني الفلسطيني برنامج النقاط العشر عام 1974، ثم جاء الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية عربيًا ودوليًا بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما تحقق في قمة الرباط من نفس العام، وبالتزامن مع هذه التطورات ألقى الزعيم الراحل الشهيد ياسر عرفات خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، واعتراف هذه الأخيرة بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني وناطقة باسمه، وكانت كل هذه الخطوات عبارة عن تحضير عملي لإدخال منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني في التسوية وحضور المؤتمر الدولي، من منطلق اقتناص الفرصة.

لقد سادت تقديرات في حينه أن نتائج الحرب يمكن أن تمنح العرب فرصة أكبر لتنفيذ انسحاب إسرائيلي من الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967، بموجب قرار مجلس الأمن 242 عبر المفاوضات، وفي سياق ذلك بدأ الحديث عن إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي شبر يمكن تحريره من الضفة وقطاع غزة (برنامج النقاط العشر).

ولكن أجواء التفاؤل والتقديرات سرعان ما بدأت تتلاشى، أولاً بسبب إصرار الولايات المتحدة على إبعاد الاتحاد السوفييتي والتفرد في قيادة عملية التسوية، ولأن وزير الخارجية الأميركي في حينه هنري كيسنجر قد استخدم سياسة الخطوة خطوة وتجزئة الجبهات وفصل الحلول بعضها عن بعض بهدف الوصول إلى تسويات منفردة.

وثانيًا الخلافات التي سرعان ما دبت بين الأنظمة العربية، وحتى بين الدولتين اللتين خاضتا الحرب معًا سورية ومصر، كما وجدت الأردن نفسها، وبعد اعتراف العرب بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني، أنها قد تخسر الضفة الغربية، ولم تعد لها مصلحة بعملية السلام تلك. الأمر الذي أدى إلى دخول المنظمة والأردن بصراع لم يكن ضروريًا لو غلّب الطرفان لغة الحوار، والشيء ذاته بين الأطراف العربية جميعها، وثالثًا بسبب محدودية الإنجاز العسكري، والذي لم يبدل كثيرا في ميزان القوى الحقيقي.

ونتيجة للخلافات وغياب وحدة الموقف العربي دعمت دول عربية، وخاصة سورية والعراق وليبيا ما أطلق عليه جبهة الرفض الفلسطينية بهدف إحباط أي مسعى لإدخال المنظمة في أي عملية تفاوض ومحاولة استثمار نتائج الحرب. كما كانت هناك مصلحة لهذه الدول بأن تبقى القضية الفلسطينية ورقة تفاوض بيدها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول. كل هذه التطورات أدت إلى تشابك الواقع العربي والفلسطينيي الداخلي. الأمر الذي قدم مبررًا إضافيًا للرئيس السادات للتقدم منفردًا للصلح مع إسرائيل. ومن هنا يأتي السؤال لو لم يعمق العرب خلافاتهم وحافظوا على قدر من تماسكهم ووحدتهم، ولو لم تنهك الانقسامات الساحة الفلسطينية هل كان بالإمكان نزع تنازلات أكثر من إسرائيل وعلى كافة الجبهات؟

بالتأكيد ليس هناك مكان لكلمة "لو" في السياسة، لكن المقصود هنا أن تبادر مؤسسات عربية وفلسطينية لإجراء تقييم موضوعي لتلك المرحلة، كما تقوم إسرائيل على الأقل وتقدم كل عام منذ الحرب دراسات وأبحاثًا وتقييمات جديدة، وتقوم بالإفراج عن وثائق تغني البحث والتقييم وتقدم توصياتها واستنتاجاتها للمستوى السياسي والبحثي. في العالم العربي لا نقوم بإعداد الدراسات ولا نفرج عن وثائق ويبقى الإنسان العربي معلقا تلعب به الإشاعات والتسريبات غير المفيدة.

وربما نحن بحاحة أن نشير إلى أن الدول العربية لا تزال تخفي الكثير من الوثائق حول حرب عام 1948 - 1949 في فلسطين، وعن حرب حزيران/ يونيو 1967 ما يجعل الباحث العربي أو الفلسطيني نفسه يعتمد على الوثائق والمعلومات الإسرائيلية والبريطانية والأجنبية الأخرى، الأمر الذي يبقي دائرة الحقيقة والمعرفة ناقصة بالنسبة للمواطن العربي والفلسطيني. فسؤال "ماذا لو" سيبقى مطروحًا بهذا الشكل غير المهني والعلمي إلى حين أن نرى وقد اكتملت دائرة المعرفة عبر الوثائق والدراسات النقدية العربية.

فعلى سبيل المثال عندما نقرأ مذكرات وزيري الخارجية المصريين اللذين عايشا مرحلة ما بعد الحرب وتجربة المفاوضات المصرية الإسرائيلية الوزير إسماعيل فهمي والوزير إبراهيم كامل. فكلاهما يتفق على أنه كان بالإمكان الحصول على دولة فلسطينية لو جرت المفاوضات بشكل أفضل ولو كان الموقف العربي متماسكًا وموحدًا بهذا الشأن ولم نذهب للحلول المنفردة. ومع ذلك لا يمكن الجزم بأن هذا كان ممكنًا. فلدينا نقص في المعلومات والوثائق، ولكن يمكن الجزم أن هذا الهدف كان من الممكن تحقيقه بعد الحرب الوحيدة التي صنع فيها العرب نوعا من التوازن، ولكن لو حافظوا على وحدة موقفهم في المفاوضات، أو على الأقل لكنا قد أسسنا السلطة الوطنية الفلسطينية على الارض الفلسطينية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي عندما كانت المستوطنات تعد على أصابع اليد.

ولكن النتيجة الوحيدة الملموسة للحرب أن مصر استعادت سيناء، وهذا بحد ذاته تطور مهم، والنتيجة الأخرى أن الحرب وما تبعها من سلام مصري إسرائيلي قد جعل سقف مرجعيات السلام العربي الإسرائيلي القرار 242، ومبدأ الأرض مقابل السلام، والمقصود هنا الأرض العربية والفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، وهي المرجعية التي كرسها مؤتمر مدريد برضى وموافقة كل الدول العربية.