فتح ميديا - لبنان
كلمات تسللت بين أزقة المخيم تشق طريقها نحو الضوء وتعلن ولادة حالة إبداعية في سلسلة الإبداع الفلسطيني اللامتناهية.
صرخته الأولى في هذا العالم خرجت بين آلاف المهجرين الذين اكتظ بهم الزمن، بعد أن لفظتهم الأمكنة مرتين وكأن اللجوء ليس بالمكان اللائق بالفلسطيني، فلاحقوه في مأوى نكبته، ليولد الاطفال في زحام الألم المتكدس على أوسدة اللجوء والتشرد، فتصبح حياتهم حلماً بوطن وعودة، يتجدد أملاً كل يوم.
هو واحد من هؤلاء، اتخذ من كلماته أملاً بمستقبل جديد له ولأطفاله ولأبناء الشعب الفلسطيني.
الشاعر جهاد الحنفي ابن مخيم البرج الشمالي، ولد عام 1979 في صيدا بين آلاف المهجرين إثر الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان.
بدأ كتابة الشعر باكراً في المرحلة المتوسطة، متأثراً بالزجل اللبناني الذي كان دائم الاستماع إليه وبجده الذي كان يكتب الأشعار وإن على نطاق محدود، فلقي التشجيع من أخيه ومعلميه.
كان يتأثر بالشعراء الذين يقرأ لهم خصوصاً في المناهج التعليمية. ففي البداية تأثر "بالشاعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ثم في المرحلة الثانوية تأثر بالفرزدق والمتنبي." ويمضي قائلاً "فيما بعد بدأت أتعرف على جبران وإيليا ابو ماضي. ولكن الفوت العظيم الذي فاتنا اننا لم نتعرف على الشعراء الفلسطينيين إلا بعد فترة من الزمن، حيث أن المناهج التعليمية لا تضم إلا القليل من النصوص. لكن في المرحلة الجامعية غرفنا من هذا البحر الكبير، بحر الشعر الفلسطيني، وتعرفنا على محمود درويش وسميح القاسم وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي، وتوفيق زياد ومعين بسيسو، وابراهيم وفدوى طوقان. كل هؤلاء العمالقة، عمالقة الشعر الفلسطيني تأثرت بهم بشكل كبير".
لا علاقة لاسم الديوان الأول بظهوري
حاول البعض ربط عنوان الديوان الأول لجهاد الحنفي "ميلاد ثائر" بظهوره الأول وخروجه إلى الضوء. لكن الحنفي يعتبر أن "العنوان نابع من كونه أنه في كل يوم يولد ثائر فلسطيني، ويولد مناضل فلسطيني، ولا علاقة لاسم الديوان بظهوري أنا، فالكثير من الناس يعرفون أنني أكتب الشعر قبل إصدار الديوان ولكن ميلاد ثائر في العام 2000 جاء متزامناً مع الانتفاضة، وكان لا بد في هذه المرحلة أن يكون هناك عمل ثقافي أدبي مرتبط بهذا الحدث الوطني العظيم فكان ديوان ميلاد ثائر".
في ديوانه الأول اعتمد الشاعر جهاد الحنفي على الشعر العامودي الموزون في قصائده. ومردُ ذلك كما يقول الحنفي "دائماً الشعراء الذين يكونون في بداياتهم يريدون أن يثبتوا لأنفسهم أنهم قادرون على كتابة الشعر العامودي، ويُعتبر الشعر العامودي اختباراً لهم. وأيضاً لا يستطيع الشاعر المبتدئ أن يكتب شعر التفعيلة والشعر الموزون إلا بعد فترة من الزمن. فكان الشعر العامودي في الديوان الأول نقطة مهمة في الانطلاق. ولا نريد أن ننسى أن الشعر العامودي هو أساس الشعر العربي، وكل تفرعات وأنواع الشعر العربي".
كل قصيدة تختار قافيتها ووزنها
لم يتوقف الحنفي عند نظم الشعر موزوناً فغلب على ديوانه الثاني "ما زلت أبحث عن هوية" طابع الشعر الحر فهو كما يصفه "له ميزة فنية أنه يسمح للشاعر أن يعبر أكثر ويعطيه فرصة للتوسع في التعبير والتحليق أكثر من الشعر العامودي الذي يقيد الشاعر بالوزن والقافية ولكن ذلك لا يعني أن من يكتب الشعر العامودي لا يأتي بشعرٍ جميل ومبدع فكبار الشعراء كتبوا الشعر العامودي وكانوا مبدعين".
مضيفاً:"في الديوان الثاني كنت قد بدأت في التعرف على هذا العالم وكانت تجربة، والشعر الحر يتناسب مع الحياة التي نعيشها، يتناسب مع الكم الهائل من الشعراء الذين يكتبون الشعر التفعيلي. وهو مؤاتياً للحالة التي كنت أكتب فيها. فكل قصيدة هي التي تختار قافيتها ووزنها والمناخ العام له".
أضف إلى ذلك إلى أن "الكثير من الناس يستسيغون الشعر الحر، لأنه أقرب إلى النثر من حيث القراءة، ويضع القارئ أمام ارتياح، ويستطيع أن يلبي رغبات القسم الأكبر من الناس في الشعر".
نعم ما زلت أبحث عن هوية
الديوان الثاني صدر في زمن انتفاضة الأقصى ويقول الحنفي "كان الحدث أكبر من لغة، أكبر من ديوان شعر ودفتي كتاب. فالحدث السياسي كان حاضراً بقوة في الديوان الثاني العمل الاستقلالي كان حاضراً بقوة فيه أيضاً. "ما زلت أبحث عن هوية"، نعم أن أبحث عن هويتي كفلسطيني أبحث عن حقي بعودة، عن أملي ومستقبلي، أبحث مع الشعب الذي يخوض معركة جبارة غير متكافئة مع عدو متغطرس، أبحث مع هذا الشعب عن الوطن السليب المفقود".
وفي "ما زلت أبحث عن هوية" لم يغرد الحنفي خارج سربه" فالشاعر الفلسطيني لا يستطيع إلا أن يكون فلسطينياً وأن لا يكتب إلا عن فلسطين، ولا يستطيع أن يخرج من دائرة صراعه مع عدوه ومستقبله وحاضره. فلسطين هي التي تملي على الشعراء الفلسطينيين والعرب، هي التي تكتب القصيدة مع أي شاعر. كبار الشعراء العرب كتبوا عن فلسطين وهم ليسوا بفلسطينيين، فالأحرى بالشاعر الفلسطيني أن يكتب عن فلسطين". ويضيف الحنفي "القضية الفلسطينية واقع الشعب الفلسطيني، الانتفاضة. معاناة الشعب، الأسرى، حصار الرئيس ياسر عرفات، كل تلك المواضيع كانت حاضرة في الديوان وكانت تطرح نفسها حاضراً وماضياً ومستقبلاً، وستظل تطرح نفسها".
الشاعر مرآة الواقع
"كلمات ملونة" الاسم الذي حمله الديوان الثالث للشاعر جهاد الحنفي والذي أبصر النور منذ أيام قليلة. كان تعبيراً عن التنوع الذي شهده الديوان حيث خرج الشاعر إلى فضاء أوسع وخاطب في بعض قصائده الانسان العربي سواءً كان مواطناً أو رئيساً أو زعيماً. ويقول الحنفي "خرجت من الإطار الفلسطيني إلى إطار لا أقول إنه أوسع لكنه مختلف ويؤثر في المشهد الفلسطيني" مشيراً إلى ان "ما يحدث في العالم العربي يؤثر على مسار الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني. لذلك كانت هناك مجموعة كبيرة من القصائد تتناول هذا الواقع الفاسد للزعماء العرب والواقع الخانع لطبقة كبيرة كانت موجودة في العالم العربي. كذلك تتناول الفئة المؤمنة التي حملت على عاتقها لواء التغيير واستطاعت أن تغير واقعاً اعتبره الناس قدراً".
وفي "كلمات ملونة" ظهرت التجربة الشخصية للحنفي الذي يعتبر أن "الشاعر يكتب بإيحاء من تجربة عامة او تجربة خاصة وهاتان التجربتان كانتا حاضرتين. فقصائد رثاء والديَّ والقصائد التي كتبتها في بناتي هي خاصة لكنها تجربة قد تعمم. أيضاً الواقع الذي نعيش فيه يعج بالمشاكل والقضايا المتفاقمة. فقصيدة عانس، وقصيدة مرأة ومرآة، وقصيدة لا تنتحر، وقصيدة شيء عن السماء والكهرباء، وقصيدة في شارع، هذه القصائد تعالج جانباً من واقع نعيشه ونتألم من وجوده. فالواقع الذي نعيشه يفرض نفسه على الصفحات. ولا يستطيع أي انسان يكتب الشعر ويتعاطى الشأن الأدبي إلا أن يكون مرآة لهذا الواقع وصورة تنقل نبض الشارع الذي يعيش فيه".
الانقطاع كان لإصدار الأفضل
"كل إنسان يقدم على عمل أدبي، يجب ن يكون هناك فرصة يعيشها مع نفسه للتقييم" هذا هو السبب الذي جعل الشاعر جهاد الحنفي يبدو وكأنه انقطع عن كتابة الشعر وإصداره، بسبب الفترة الطويلة بين ديوان "ما زلت أبحث عن هوية" وديوانه الأخير "كلمات ملون" والتي امتدت من عام 2002 إلى العام الحالي. ويعتبر الحنفي أنه "يجب أن يكون هناك فرصة للتأمل، وكثير من الشعراء يندمون على ما كتبوا سابقاً، أنا شخصياً لا أندم، هذه تجربتي الشخصية كانت رائعة في وقتها، سواء كان مستواها جيداً أو ممتازاً أو ضعيفاً، ولكنها كانت تجربة في وقتها وآنيتها، ولا بد لكل إنسان أن يعتز بتجربته، وهذا لا يعني أنه ينكر وجود خلل ما فيها. وهذا الانقطاع كان لإصدار الأفضل.
لو بحثت لوجدت الكثيرين
يصف جهاد الحنفي الحالة الثقافية الفلسطينية اليوم بأنها "امتداد لموروث أدبي عميق وكبير وعظيم لثلة من الأدباء والشعراء. هذا الشعب ما زال فيه الكثير من المبدعين لكن بحاجة إلى فرصة ومناخ مناسب وتشجيع دائم. أن ترى إنسان ينتج كتاباً في ظل هذه الظروف الخانقة التي يعيشها الانسان الفلسطيني فهذا يعني أنه يفكر في الإتجاه الصحيح. وأن جذوة الحياة ما زالت في أعماقه. ولو بحثت في المخيمات ستجد الكثير ممن يكتبون، والكثير ممن قد يكون لهم مستقبل لو وجِّهوا توجيهاً أدبياً صحيحاً".
سابقاً كان الاهتمام أكبر
ويأسف الحنفي "لوجود بعض التقصير على مستوى الفصائل والمؤسسات الفلسطينية، بالرغم من وجود محاولات للنهوض بالعمل الثقافي الفلسطيني. أمام فصائلنا فرصة مهمة للتعبير عن هذا الاهتمام. سابقاً كان الاهتمام أكبر ونرى أن الثورة الفلسطينية احتضنت كبار الشعراء والادباء والمفكرين. والثورة الفلسطينية اعترفت بأهمية المثقف الفسلطيني وأهمية سلاح الكلمة. إسرائيل اغتالت الشعراء والمفكرين ككمال ناصر والهمشري وغسان كنفاني وغيرهم الكثير. وهذا اعتراف ضمني بأن هذا الانسان قد يقود شعباً".
على المثقف أن يقوم بدوره
يؤكد الحنفي أنه يجب على المثقف الفلسطيني أن يأخذ دوره في هذه المرحلة الهامة من مسيرة الشعب الفلسطيني خاصة بعد أن تم الاعتراف بدولة فلسطين كاملة العضوية في اليونيسكو، مطالباً إياه "بأن يشرح قضيته للناس وأن يتكلم عن معاناة الشعب، وأن يدحض الماكينة الإعلامية الإسرائيلية التي تروِّج لإنسان فلسطيني مهزوم. وأن ينقل هذه الثقافة من مستواها وحيزها النظري إلى مجالها العملي. والمطلوب من المثقف الفلسطيني أن يؤمن أن للعلم في هذه القضية دوراً كبيراً".
حوار/ طارق حرب
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها