فتح ميديا - لبنان
صورٌ... حياتُنا كلها صورْ! صورةُ الغياب تسبحُ في الماضي البعيد، وصورةُ الأمل المنتظر على شواطئ الغد؛ نمشي على صورنا الكثيرة، لنحيا يومًا آخر، فنمزِّقُ هاتيك الصورْ، ونبحثُ عن بعض الصورْ، لتبقى صورةٌ واحدةٌ لنا؛ منسيةٌ تحت أقدام القدرْ! صورٌ... حياتُنا كلها صورْ!
صورُنا الكثيرةُ، ذكرياتُنا المحبوسةُ بين جدران الورق. صورُنا، أجسادُنا المعتَّقةُ في خوابي الذكريات! نشربُها فنبتلُّ بحاضرنا الغائب، ونعانقُ سرابَ الفرح بملامح الشوق الحزين. صورُنا ملامحُ المطر على نافذة البارحة، وسنابلُ العمر المتروكةُ على بيادر السفرْ! صورٌ... حياتُنا كلها صورْ!
كثيرةٌ صوري... كأوراق الخريف حزينةٌ؛ كرسائل المغتربين مطرَّزةٌ بالحنين. صوري أعشاشُ القصص المحلِّقة في الخَلَد؛ مَحطةُ مسافرٍ لا انتظارَ فيها؛ صوري قطارٌ بلا مَحطة! أسافرُ فيه إلى المدى المسافر؛ فتستفيقُ الطريقُ على صفير السفر، وآكلُ خطرَ المجهول وأقاسمُ السارقَ فرحَه عائدًا إلى أطفاله بكفاف خبز اليوم...
صوري فصولُ السنة كلها. فيها صهيلُ الشتاء، ولهيبُ الصيف، ورحيلُ الخريف وترنيمُ الربيع. وأنتِ يا حبيبتي، صورتي التي تجتمعُ فيها الفصولُ الأربعة! صورتي التي يبحثُ الزمنُ عن مرآةٍ لها! تمر عليها الريحُ لتنزعَها ببراثن الغضب، فتأبى الرحيل؛ وتلفحُها الشمسُ بسياط الوَهَج، فتعتصمُ بخيمة الأبد!
حبيبتي... يا صورةً في القلب يرسمها الصدى؛ وتعيشُ خلفَ شواطئ النسيان؛ قد سرتُ فيكِ فما عثرتُ على المدى؛ ورحلتُ عنكِ فردّني وجداني...
على باب القيامة، لن نسألَ الأنبياءَ: أونستطيعُ الدخول؟! فللجسد صورٌ كثيرة، أما روحُنا، فلها صورةٌ واحدةٌ، تعمَّدتْ بوجوه الأطفال، وتلذَّعتْ بغربة المشرَّدين في الأرض. لا جنةٌ في السماء أعظمَ من جنة في الأرض. وجهنمُ شُعلةُ الإنسان في عتمة المجهول. ونحن ، ذهبنا إلى السماء ألفَ مرة، فوجدنا صورةَ قيامتنا على الأرض. هنا، زرعْنا المطرَ وقطفْنا القمرَ، وحصدْنا الشوقَ وتركنا الندى مذهَّبًا...
أنا ذاهبٌ إلى بلد النسيان، فهل تريدين الذهابَ معي؟! هناك، في بلد الفراغ، بلدِ العدم، بلدِ الريح، سأزرعُ قصصًا كثيرة، صورًا كثيرة. وسأزرعُ أيضًا صورتَنا معًا، فلا تحزني! فأجملُ ما نكون، أن نكونَ منسيَّيْن هناك؛ لا أثرَ لخطانا ولا غيمةَ في هوانا، نأكلُ عشقَنا خبزًا مقدَّسًا، ونشربُ أحلامَنا نبيذًا معتَّقًا بأنفاس المسافات... فتطيشُ سهامُ الصيادين عن قصص الحمام المعرِّش في الشرفات.
في بلد النسيان، تهربُ منا الذكرياتُ لأننا نجد كياننا الأبدي. في بلد النسيان نرمي منديلَ العبرات ونقلعُ شوكَ الضجر، لأننا ننسى كل شيء... تلمَعُ أعينُنا كالشمع في الكنيسة، وتجتمعُ أيادينا كأعشاش الضباب في المفارق!
في بلد النسيان، لا نسمعُ صهيلَ العاذلين، ولا يَلذَعُنا جليدُ التقاليد. في بلد النسيان ينهمر المطرُ مشتاقًا إلى رائحة التراب؛ ويذوبُ الثلجُ على وهج الحب الحارق. هناك... على جدران النسيان يا حبيبتي... معلَّقةٌ صورتنا الأبدية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها