عادةُ جارنا خليل الصباحية الجلوس في زاوية شرفة منزله المطلة على الواجهة البحرية يتابع أمواج البحر المتلاحقة ويحتضن سيجارة بين إصبعيه وفنجان قهوة رابضاً بغنج ودلال على منضدة صغيرة.
يلحظ المشاهد حركة يد خليل متنقلة بين فنجان القهوة ومنفضة السجائر. سحبة من سيجارته ونفث سحابات دخان يتبعهما رشفة دقيقة من فنجان قهوة يمسكه بلطف ورقة بين السبابة والإبهام ويدنيه برغبة وشهوة من فمه.
صباحيةُ خليل هذه امتدتْ لأكثر من عقود أربعة، كما يقول.
عشقٌ للسيجارة وولعٌ بالقهوة لا يوصف. احتار الأطباء وعجز الأهلُ عن إقناع خليل الإقلاع عن هذه العادة المتأصلة به، سيما وأن حالته الصحية دخلت مرحلة دقيقة تستوجب رعايةً وعنايةً ومتابعةً مكثفة.
أطلَّ خليلٌ البارحةَ متدثراً... قلنسوةُ صوف تغطي رأسه وتحفظُ أذنيه، وثياب قطن وعباءةٌ تلفه، متخذاً ركنه المفضل على الشرفة يسرّحُ النظر ويمتعُ النفس في بيئةٍ حُرِمَ مشاهدتها لأكثر من سنتين، أمامه، كالعادة، منفضة بلورية صغيرة. وعلبة سجائر وفنجان قهوة.
رفع خليل السيجارة لأخذ سحبة. لم تعدْ سيجارتُه ساكنةً بين إصبعيه كما كانت سابقاً، إنها كثيرةُ الاهتزاز، شديدةُ الرجرجةِ يصعبُ تغريبها عن شفتيه. لكنْ سعادةٌ تغمره في لمسها ونشوة تعتريه في النظر إليها وتنشق نكهة التبغ. جنونٌ اعتراه إثر سحبة متقطعة نفث بعدها سحب دخانها كقطار يغادرُ محطة الوقود.
فنجانُ القهوة ما برح رابضاً باعتزاز وشموخ على المنضدة. خليل ينظر إلى قهوته بلهفة. يحاول قبض الفنجان لرشف بعض رحيق محتواه. لم تعدْ أصابعُ خليل الثلاثة تمكنه من قبض الفنجان. ولم تعد يده تمكنه من التحكم بفنجان القهوة لشدة اهتزازها وتذبذبها واضطرابها. يخشى خليل إن حاول إمساك الفنجان أن ينقلب عن المنفضة، أو أن ينكب محتواه على ثيابه ولربما يسقط ويرقد في حضنه. تراه حائراً. يسحبُ نفساً (سحبة) من سيجارته بعد عناء ومشقة وينظرُ بلهفة إلى فنجان القهوة الثابت بتحدٍ، فيختلطُ الألمُ والحسرةُ مع الرغبة الجامحة. انتظر خليل... وفكر ملياً. انحنى قليلاً إلى المنضدة. لامستْ شفتاه حافة فنجان القهوة. قطفَ رشفةً سريعة.
رفع خليل رأسه بشموخ واعتزاز.. انفرجتْ أساريرُ وجهه وبان بريقُ لمعان عينيه وعلتْ بسمةُ بهجةٍ وطمأنينة.
انتصَر خليل! تحققتْ الأمنية. نال ما يشتهي. انحنى مرةً أخرى وأخذَ رشفة أكبر. وامتدّ لسانه يتلذذُ بما علق على الشفةِ العُليا.
وفاء لصداقة قديمة، لا بل رغبةٌ جامحةٌ وإن كانت قاتلة!!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها