هناك مثل عربي قديم غاية في الدلالة، وبالمناسبة معظم الأمثال هي تلخيص مدهش للتجارب الإنسانية وتعبير دقيق عنها، المثل المقصود هنا "الإناء بما فيه ينضح" بمعنى أن صفحات التواصل الاجتماعي تقدم البشر في الغالب كما هم عليه، الشهم، والشجاع، والجريء، والمتفاني، والأناني، والنرجسي، والطموح، والمتهور، والمتردد، والعقلاني والموضوعي، والذي يتلذذ بالمبالغة أو بإيذاء الآخرين وجرح مشاعرهم، وهناك بالطبع المحترمون المتوازنون الذين يقدرون الآخر ويحترمون رأيه مهما خالفهم الرأي.
وهنا، وقبل أن أسترسل، أود التوضيح أن هذا المقال ليس دعوة لا لكبت الحريات ولا حتى لقوننة من شأنها تضييق هامش الإعراب عن الآراء والمواقف والأفكار. إنه مجرد محاولة لفهم الآخر بطريقة أفضل وكيفية التعامل معه بطريقة مهذبة مهما كان هذا الآخر بعيدًا عن التهذيب والمهنية والموضوعية.
ولا أشك هنا أن صفحات التواصل الاجتماعي قد وفرت مادة دراسية دسمة لعلماء النفس، فبدل إضاعة الوقت والجهد في إجراء مئات المقابلات للخروج باستنتاجات معيارية، فإن وسائل التواصل تمنحهم قدرًا كبيرًا من تحليل نفسيات البشر. وحتى الإنسان العادي يمكنه ببساطة تحديد طبيعة الناس وإدراك شخصياتهم، وبالتالي طريقة التعاطي معهم، ففي نهاية الأمر ومهما حاولوا غير ذلك فإن الأفراد سيعكسون شخصياتهم في وسائل التواصل.
وربما ونحن نقيم تجاربنا، أن نشكر هذه التكنولوجيا، على ما تقدمه لنا من معارف وفرص، ليس بما يتعلق بالناحية النفسية للأشخاص، وإنما بالآراء والمواقف والتفاعل، وفي المحصلة علينا ألا نلعن التكنولوجيا، وإنما كيف نستخدمها، خصوصا إذا حولناها إلى مجال لبث الكراهية والحقد وبث الإشاعات أو تصديقها دون أن نستخدم عقولنا وندقق من هو المستفيد الحقيقي من ورائها؟ وربما علينا أن نأخذ بالاعتبار أن وسائل التواصل هذه تحولت إلى فرصة للارتزاق والبحث عن داعمين لهم شروطهم وأجندتهم مقابل المال، وما عليك إلا أن تجمع أكبر عدد من المتابعين لتبدأ عملية البيع والشراء. وهنا علينا ألا نعمم فهناك نشطاء لا يمكن شراؤهم أو بيعهم، وإنما يمارسون قناعاتهم.
وبعد كل هذه السنوات مع صفحات التواصل، أصبحنا بهذا القدر أو ذاك ندرك من هو الصديق ومن هو العدو، وربما القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف ومضلل، وإذا ما قال فلان الحقيقة فإما أنه يلفق ويساهم بالتضليل خدمة لطرف قد لا نعرفه وقد لا يعرفه هو. أبشع ما في كل ذاك أولئك النرجسيون الذين لا يرون في المعادلة إلا أنفسهم، غير آبهين بالآخر ومشاعره وخصوصياته، ولا تعنيهم مصير ومستقبل شعب أو قضية او وطن، هؤلاء الأكثر إزعاجًا.
على أية حال، وبالرغم من كل ما سبق علينا أن نحترم الناس وتطلعاتهم الشخصية والعامة، وأن نتفهم ظروفهم ففي غالب الأحيان تمثل صفحات التواصل مجالا لفشة الخلق والتعبير عن الغضب أو التمرد الافتراضي لأن التمرد الفعلي والواقعي غير ممكن. ومهما رأى الناس من شرور، ويحاولون إلصاقها بصفحات التواصل أو من خبر يرجعونه لأنفسهم فإن علينا وفي كل الحالات أن نحيد الأدوات ونقيم أداءنا في استخدام هذه الأدوات، وإذا ما كان استخدامًا إيجابيًا أم سلبيًا أو خليطًا من كليهما، وهنا تعود الأمور للمستخدم ورغبته في أي موقع يكون وأي كفة يرغب في ترجيحها.
وبالتأكيد فإن بين أيدينا وسيلة أعطانا إياها العلم والتقدم العلمي، فهي تتيح لنا فرصة كانت جزءا من الخيال العلمي قبل أربعة أو خمسة عقود، هي نعمة التواصل، نعمة لأنها تتيح لأي شخص أن يكتب وينشر آراءه ومواقفه بحرية، هي نعمة لأنها تجمع الناس والأصدقاء والعائلات وتتيح لهم التعارف والترابط أكثر، وهي نعمة لأنها مصدر للمعرفة، ولكن عندما نرى فيها نقمة فعلينا أن نسأل أنفسنا أولا عن السبب؟
قد يكون من الأنسب أن نخفف من كل ما هو مبالغ به، وأن نفكر بغيرنا، كما يقول الشاعر محمود درويش "فكر بغيرك" قبل أن تكتب حرفا على صفحات التواصل، فالبغض الحلال هو الأنانية. وأبغض السلوك هو الكذب، ولكن علينا أن نعترف: نحن نعيش الواقع كما هو، ومن هنا تأتي نعمة ضبط النفس. ونعمة أن لدينا عقلاً، فهذا الأخير هو وليس صفحات التواصل من يجب أن نحسن استخدامه، وفي الحالة الفلسطينية علينا أن نكون يقظين أكثر لأن هناك أطرافًا عدة تعبث بقضيتنا الوطنية وتستخدمها عاطفيًا لتمرير أجنداتها، وكما يقول المثل "العقل زينة" وبالتحديد نحن الفلسطينيين علينا أن نستخدم عقولنا أكثر من غيرنا لنميز الغث من السمين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها