كشفت الأزمة الاخيرة في إسرائيل ان هناك انقساما يمكن معه القول بوجود دولتين ومجتمعين داخل الدولة، وربما أكثر من ذلك فإن لكل منهما حيزه المكاني الجغرافي. فالمدن الساحلية والساحل عموما يغلب فيه المجتمع الليبرالي، الذي يريد ان تحافظ الدولة على طابعها الصهيوني العلماني الديمقراطي، بالمقابل تتركز الأحزاب اليمينية سواء احزاب الصهيونية الدينية أو الأحزاب الدينية الأرثذوكسية المتشددة التي تنادي بتطبيق الشريعة اليهودية، واليمين عموما، في منطقة القدس والمستوطنات المقامة على اراضي الضفة المحتلة. وما اظهرته الأحداث، وقد تظهره أكثر في المستقبل، ان هناك ما يشبه انقساما حضاريا وثقافيا وخلافا عميقا حول تعريف هوية إسرائيل، ولا يبدو أن هناك تسوية من أي نوع يمكن ان تجسر9 الهوة العميقة بين الكيانين.
جذور هذا الانقسام قديمة تمتد الى لحظة تشكل الحركة الصهيونية في اوروبا في نهايه القرن التاسع عشر، فمؤسس هذه الحركة (ثيودر هرتزل) لم يكن متدينا البتة، بل انه لم يكن مختونا كما هم باقي اليهود، فهذا المؤسس أراد حركته ان تكون قومية علمانية ديموقراطية، كما كان حال القوميات التي كانت رائجة في أوروبا آنذاك، كما أراد ان تكون الدولة اليهودية التي يسعى اليها، دولة علمانية ديمقراطية بالرغم من انها تستمد قوميتها من الميثالوجيا الدينية.
بعد وفاة هرتزل، تولى حاييم وايزمان دفة القيادة، وكان يميل لما اطلق عليه في حينه "الصهيونية العملية"، أي تلك التي تريد الاسراع في الهجرة والاستيطان دون انتظار مواثيق او اتفاقيات، الا ان وايزمان، وهو يهودي من أصل روسي هاجر الى بريطانيا مبكرا، كان يصر على الطابع الديمقراطي ومثل تيار الوسط في الحركة الصهيونية.
منذ قيامها وحتى الآن كانت الصهيونية تتكون من عدة تيارات واتجاهات، على سبيل المثال، الصهيونية العمالية الاشتراكية، الصهيونية الاصلاحية، وهو تيار قومي علماني متشدد سعى منذ البداية لانشاء إسرائيل الكبرى التي تضم فلسطين الانتدابية والأردن وجنوب لبنان حتى الليطاني، وأجزاء من سوريا جنوب دمشق. كما كان هناك الصهيونية الدينية، وتيارات أقل تأثيرا، كالصهيونية الثقافية، والصهيونية الثورية، الى جانب الأحزاب الدينية الارثوذكسية.
وفي الوقت الذي كان وايزمان يعمل على صياغة وعد بلفور مع الحكومتين البريطاتية والأميركية، كان التيار العمالي قد بدأ يسيطر على مسار الأحداث على الأرض في فلسطين بقيادة ديفيد بن غوريون، وهو التيار الذي يعود له الفضل في تأسيس مجتمع "اليشوف اليهودي" ووضع دعائم الدولة ومن ثم الاعلان عن تأسيسها الرسمي في منتصف ايار/ مايو العام 1948.
بقي هذا التيار، بأحزابه وتشكيلاته المهيمن على الدولة حتى العام 1977، عندما فاز للمرة الاولى تيار الصهيونية الاصلاحية اليميني العلماني والمتمثل بحزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن في الانتخابات، هذا الفوز اعتبر في حينه انعطافا نحو اليمين. ولكن الجذور القريبة للصهيونية الدينية بدأت بالظهور مع تأسيس حركة "كاخ" العنصرية بزعامة المتطرف مائير كهانا، بكل تصنيفاتها تمتد الى عملية اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على يد أحد نشطاء الصهيونية الدينية يغال عمير. ومنذ هذا الاغتيال واليمين المتطرف يقوم بتكيف النظام السياسي ليكون على شاكلته الى ان وصلت فيه إسرائيل الى واقع اعتقد فيه اليمين المتطرف انه قد اصبح بإمكانه السيطرة على الدولة، من هنا لاحظنا كيف بدا وبخطوات متسارعة سن قوانين تضمن له هذه السيطرة وفي مقدمتها قانون "اصلاح القضاء".
لقد اظهرت الأزمة الداخلية التي تعيشها إسرائيل، وجود مجتمعين من الصعب ان يلتقيا، حتى ان اليمين المتطرف لم يعد يكترث لجيش الاحتلال الإسرائيلي ويريد انشاء ميليشيا داخل جهاز الشرطة (الحرس الوطني) تأتمر بأوامره، أي انشاء دولة داخل الدولة تقود الى وضع يده على الدولة بأكملها ولفترة طويلة.
مسألة اخيرة يجدر التوقف عندها، ان إسرائيل باتت تتصرف كأي دولة أخرى بعد أن فقدت الطبقة السياسية القدرة على طمس التناقضات الداخلية من خلال التخويف بالخطر الخارجي. لقد كان المشهد الإسرائيلي خلال الأزمة الأخيرة شبيها بالمشهد الفرنسي، على سبيل المثال، حيث هناك انقسام مجتمعي وسياسي وايديولوجي حول تعديل قانون التقاعد. هذا التطور يمكن النظر اليه بأنه تطور ايجابي من زاوية انه للمرة الأولى تلوح بالأفق إمكانية حصول تغيرات جذرية في الوعي لدى شرائح واسعة من الشعب الإسرائيلي حتى بخصوص القضية الفلسطينية، خصوصا ان الجسم الأكبر من اليمين المتطرف الفاشي قادم من المستوطنات، أي انه احد تداعيات الاحتلال.
قد يكون هذا الاستنتاج سابقا لأوانه لكن يمكن تخيله، فلا أمل لإيجاد تسوية سلمية، سواء استنادا لحل الدولتين أو الذهاب لدولة واحدة ثنائية القومية غير عنصرية، الا عبر حصول تغير جدي في الوعي الإسرائيلي، وكما هي طبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي المعقدة، فإن هناك ضرورة للنظر بعمق في أي تطور ورؤية الفرص فيه مهما كانت ضئيلة بهدف تغير الواقع العنصري ومسألة احتلال شعب لشعب آخر.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها