لم اشأ الكتابة عن رحيل الصديق العزيز الراحل الدكتور جمال محيسن مباشرة، واكتفيت بنشر بوست سريع مؤبنا إياه لأكثر من اعتبار؛ لأن الكثير من المغردين المعزين سيملأون صفحات المواقع الاجتماعية والمنابر الإعلامية؛ ولإعطاء الفرصة للذات لإحياء ذكرى رحيله في أسبوعه الأول؛ لديمومة استحضار ذكرى الرجل، والتأكيد على حضوره بين أصدقائه ومعارفه ومحبيه.

مضى أسبوع على رحيل المناضل الوطني الكبير الدكتور جمال محيسن، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" بعد مخاض عسير مع المرض، استنزف قواه وأنهكه، رغم أن أبو المعتصم ثابر وقاوم مقاومة الرجال الأشداء بكل ما يملك من قوة التحمل والصبر والشجاعة، وكابر كثيرًا في تحديه المرض، وكان عنيدًا، لم يستسلم له، وأصر حتى اللحظة الأخيرة على متابعة العمل، فكان يأتي لمكتبه غير عابئ بتداعيات المرض على جسده النحيل، ولم يشك رغم بصق الدم، الذي اكتشفته عائلته بالصدفة، ما اضطرهم لتحويله للمستشفى، التي لم يكن يحب الذهاب إليها، أو البقاء فيها. وبعد شد وجذب بينه وبين المرض، تمكن منه، وجاءه ملك الموت حين حانت لحظة الوداع للحياة الدنيا ليخطف أنفاسه الأخيرة، ويفرض على قلبه التوقف عن الخفقان، وفي ذات الوقت ليمنحه شهادة الولادة من جديد في عالم الخلود يوم الإثنين الماضي، بعدما أسلم الروح لبارئها أثناء انعقاد دورة المجلس المركزي الـ31 في رام الله، التي حرص أعضاؤه على تسمية دورتهم باسمه تخليدًا لذكراه العطرة.

ولمن لا يعرف الدكتور جمال فهو من المناضلين الوطنيين، الذين انتموا باكرًا للثورة الفلسطينية، ومزج بين النهل من بحر العلم ومدرسة الكفاح، وتدرج في مواكبه من جبال الخليل إلى عمان العاصمة الأردنية إلى جامعة بيروت العربية 1972 إلى جامعة الفاتح في طرابلس، العاصمة الليبية 1978 إلى جامعة كارلوفا في براغ تشيكوسلوفاكيا عام 1988 قبل انقسامها لدولتين تشيكيًا وسلوفاكيًا بعد إنهيار منظومة الدول الاشتراكية، التي توجها بالحصول على الدكتوراة في الفلسفة. وواكب مسيرتها (الثورة) على مدار الخمسة وخمسين عامًا، قضاها متنقلاً بين ساحات الكفاح التحرري، وميادين وحقول العطاء السياسي والتنظيمي والنقابي والتربوي والرياضي الشبابي، وكان عنوانًا للوطنية أينما حل، ومثالاً للحيوية والنشاط وصلابة المواقف، وعدم المهادنة أو التردد أو التعلثم في الدفاع عن الهوية والمشروع الوطني. قاتل وفق معايير وأدوات كل حقل عمل فيه منتصرًا لإرادة الإنسان الفلسطيني ومصالحه العليا نتاج عطائه المتقدم، ومصداقيته العالية، ووفائه للثورة وقيادتها، وللشعب بمختلف قطاعاته، ولنظافة كفه وسيرته تبوأ أعلى مراكز القرار في حركته، حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح بانتخابه عضوًا في اللجنة المركزية في المؤتمر السادس عام 2009.

كما أنه احتل مواقع عديدة في مؤسسات السلطة الوطنية بعد العودة للوطن، خاصة في وزارة الشباب والرياضة، كما تولى مهامه كمحافظ لمحافظة نابلس 2007 /2009، وتولى مسؤولية المفوض التنظيمي لمحافظات الشمال (الضفة الفلسطينية)، ولم يبخل بجهده ومثابرته، رغم كل الصعوبات والتحديات، التي واجهته في حقول العمل المختلفة، بيد أنه وقف شامخًا مبددًا من وجهة نظره ومعاييره الأخلاقية والوطنية كل التعقيدات والصعوبات.

الراحل الوطني الكبير جمال محيسن معروفًا عنه، أنه لا يحب المداهنة والمجاملات، كان كحد السيف يقول رأيه، لا يخشى أحدًا إلا الله. لكنه كان يحترم الآخر ورأيه، ويغلب الوطني على الشخصي، ويتعامل بروح المسؤولية العالية في القضايا المختلفة، وإذا اقتنع برؤية ما دافع عنها بجدارة وقوة، دون أن يسقط رؤية الآخر.

رحل المناضل الوطني ابن حركة "فتح" عن المشهد، لكنه باق وحي بين ذويه وإخوانه وشركاء النضال والمصير بعطائه وتجربته الكفاحية المتميزة وإخلاصه ونبل أخلاقه ووفائه للشعب والقضية والأهداف الوطنية. غاب جمال ابن قرية عراق المنشية المحتلة في العام 1948 جسدًا، لكنه مازال حاضرًا في السجل الذهبي للشعب، وتقديرًا لمسيرته الطويلة أصدر سيادة الرئيس أبو مازن مرسوما بمنحه وسام النجمة الكبرى من وسام القدس بتاريخ الأول من شباط/فبراير الحالي وعشية رحيله. تقديرًا لدوره الوطني وتثمينًا لعطائه وعمله القيادي في صفوف الثورة، وفي مجالات العمل النقابي وكافة المهام، التي تولاها. رحم الله جمال والعزاء الحار لأسرته وذويه ولإخوانه في حركة "فتح" والحركة الوطنية الفلسطينية.

 

المصدر: الحياة الجديدة